رأي/ قال لي: “الحياة رائعة”، أجبته: “هل تعني ما تقول؟” رد علي بابتسامة واثقة: “بالتأكيد”. تفاجأت برده، وأدركت أني ربما لم أعد أعرف شكل السعادة حين أراها.
هذا الحوار دار بيني وبين مدرب سويدي في نادٍ رياضي.
السويديون، بشكل عام، رغم البرود الاجتماعي الذي يتصفون به والعزلة التي يعيشونها، إلا أنهم يبدون سعداء، قنوعين بحياتهم، يؤدون عملهم كروبوتات آلية، بلا اعتراض أو تمرد، يعملون ما يُطلب منهم وإن كانوا في أعماقهم مستائين من أوضاعهم، يرضون بالقليل.
قطعة خبز محمصة مع القليل من الزُبد يمكن أن تجعل يومهم بهيجاً، وكأنهم تناولوا وليمة ملكية. ورغم انهم لا يبتسمون كثيراً، لكنهم قانعون، يمكنهم تحويل لحظات عابرة إلى ذكريات سعيدة تمدهم بالقوة على المواصلة.
لكن، لماذا يغمر الحزن وجوهنا نحن المهاجرون؟ خصوصاً من جذور شرق أوسطية، ترى الواحد منّا وكأن الكرة الأرضية بثقلها وقاراتها السبع قد وضعت على عاتقه، حتى أن أطفالنا حديثي الولادة يولدون بسحنة مهمومة وغاضبة!
لا تغرينا قطعة خبز ساخنة ولا حتى خروف كامل ممدد ومحشو بأرز مفلفل.
ما الخطأ فينا؟ أم أن من التفاهة أن يسعد الإنسان بالأشياء الصغيرة؟
من المؤكد أن لكل شعب تاريخه وتجربته، لكن اللافت أن الشعوب الأوروبية التي شهدت دماراً في حربين عالميتين مدمرتين نجحت في النهوض، رتبت بيوتها، لملمت جراحها، وأسدلت الستار على الماضي.
فتحت صفحة جديدة للحياة، تقودها مفاهيم “الاستقرار، الفردانية، والرضا النسبي”، وبدأت في زراعة بذور السعادة التي لا ترتكز على وفرة، بل على البساطة والتنظيم والوضوح.
أما نحن، فلم نغلق الستار بعد.
ما زالت النيران مشتعلة، الأحقاد مشتعلة، والذاكرة مغموسة في وجع مستمر.
فهل هي لعنة جغرافية أم تقصير حكومات؟
أم أن الشعوب نفسها لا تعرف كيف تحزن بطريقة صحية ولا كيف تفرح بطريقة حقيقية؟
في أوروبا، وخاصة في الدول الإسكندنافية، تُقاس السعادة غالباً بالحد الأدنى من القلق والحد الأقصى من التنظيم.
في ثقافتهم، يكفي أن يكون كل شيء “قيد السيطرة” لتكون الحياة جيدة.
أما في ثقافتنا، فلا نطمئن حتى تفيض الموائد، وتمتلئ الجيوب، وتصفق لنا الجماهير.
ربما لهذا، لم تُرضِنا البدايات المتواضعة ولا اللحظات العابرة.
السعادة عند الأوروبي لحظة قهوة، وصمت عائلي، وضوء شمعة.
السعادة عند المهاجر الشرقي، مشروطة… بشهادة عالية، دخل مرتفع، سيارة حديثة، و”حظ” يصفق له القدر.
الغريب أن الأوروبي الذي يعيش حياة منظمة أشبه بالآلة، هو نفسه من يخصص وقتاً أسبوعياً لممارسة الرياضة، ولتأمل الغروب، ولتذوق الشوكولاتة ببطء.
هو ذاته الذي يجلس مع أطفاله ويروي لهم حكاية، لا تعود بالضرورة إلى الميثولوجيا أو الفتوحات، بل حكاية بسيطة عن نزهة في الريف.
في المقابل، نحن الذين نحمل عبء “الهوية والانتماء والكرامة والرجولة والمستقبل”، غالباً ما لا نجد وقتاً لننظر إلى الغيوم، أو لنضحك بلا مبرر.
نركض كثيراً… ونسعد قليلاً.
ليست السعادة وصفة عالمية، بل فلسفة محلية تختلف من وطن لآخر، ومن ذاكرة لأخرى. لكنها في كل الأحوال لا تعيش في المستقبل، بل في اللحظة، في القليل الذي نراه كثيراً، في الرضا الذي لا يُشترى، وفي البساطة التي لا تحتاج لتبرير.
الحياة أنهكتنا بما فيه الكفاية… ولا جدوى من انتظار السعادة على شكل مخلوقات فضائية تهبط من كواكب بعيدة.
ربما حان الوقت أن نعيد التفكير في مفاهيمنا، أن نعيد اختراع طريقتنا في الحياة قبل أن تستنزفنا الحياة نفسها.
ربما علينا أن نتعلم أخيرًا أن نعيش، بدلاً من أن نمضي أعمارنا نحاول إثبات أننا دائماً على حق.
لينا سياوش
مقالات الرأي تُعبر عن رأي كتابها وليس بالضرورة عن SWED 24