مقال رأي: رغم أن حرية التعبير الكاملة مصانة في الدستور السويدي والمجتمعات الأوروبية المتطورة، لكن هذه المجتمعات لم تصل الى المرحلة التي يمكن فيها للفرد التعبير دوماً عما يفكر فيه بشكل تام. لا السياسيين ولا الأشخاص العاديين يعبرون عن رأيهم بالآخر بشكل صريح وواضح مائة بالمائة.
النقاشات التي نراها على التلفزيون بين قادة الأحزاب السياسية في السويد تؤكد لنا ذلك، رغم ما يحصل فيها من مشادات كلامية تشكل غذاء شهياً للصحافة في اليوم التالي.
ولكي نتمكن من العيش في هذا العالم المترامي الأطراف، المتنوع بفسيفسائه البشرية، علينا الالتزام طبعا بحدود فاصلة نحافظ فيها على علاقتنا بالآخر ونضمن فيها استمرارنا بالعيش معاً في قطعان بشرية.
والقانون هو المشرط الذي ينظم الحياة في الدول المتطورة، لذلك نادراً ما نسمع باغتيال السياسيين أو قتلهم في ظروف غامضة او موتهم مسمومين. على عكس الأنظمة الدكتاتورية او تلك التي تعمل أحزابها لمصالحها الخاصة والتي ينهب مسؤوليها الأموال ويودعونها في البنوك بالخارج.
الأنظمة التي تفتقر الى نظام قانوني راسخ ومتين وصعب المساس به، تجري فيه النقاشات الفكرية على شكل تصفيات جسدية، بدل الخوض في سجالات فكرية يختلط فيها الألف مع الياء. رصاصة في الرأس أو تفجير مدبر وينتهي النقاش لصالح الأقوى.
هل هناك حرية تعبير في العمل أيضا؟
في العمل مثلاً هنا في السويد، يُدرك جميع الذين نالوا فرصة وعملوا في مجال ما بمختلف القطاعات، ان هناك كم كبير من الاختلافات في الآراء وطريقة التفكير وحتى أبسط الأمور بين العاملين، وخاصة بين المنحدرين من أصول اجنبية سواءً مع بعضهم البعض او مع السويديين، لكننا مع ذلك نحافظ على مسافة بيننا لنضمن ان نضع حدود لما نشعر به ونفكر به تجاه الأخر، والهدف من ذلك ضمان حفاظنا على عملنا لأنه مصدر رزقنا، وذلك امر لا يخلو من ذكاء نتقنه مع الوقت.
المدراء في السويد لا يفضلون الموظفين او العاملين الذين يتذمرون ويشتكون كثيراً، على الأرجح ليس لديهم وقت لذلك، القاعدة هي، قم بواجبك واعمل بهدوء وحافظ على روتين العمل كما هو ولا تفسد نظامه، هذا ما يريدونه.
في المنزل، هل يتحدث الزوجان او الأبناء عن كل ما يدور في خلدهم بشكل صريح وبحرية تامة؟ لا اعتقد ذلك بل وقبل ان نتحدث بأي شيء نختار الطريقة المُثلى لطرح افكارنا بالشكل الذي يلقى قبولاً وتفهماً لدى الأخر او نختار عدم الحديث اطلاقا إذا كنا مدركين اننا سنخرج بنتيجة عكسية لما نود قوله. هذا هو الأمر.
أخشى ان تكون حرية التعبير بالمعنى الحرفي لها، فقاعة نُوهم أنفسنا بها سواء في المجتمعات البسيطة او المجتمعات الأوروبية المتطورة. ربما وبعد عقود طويلة من الزمن والتطور سيكون هناك كائنات جديدة تعمل وفق مصفوفة آلية خاصة لا تمت للمشاعر بصلة بل تتعامل مع الأحداث والأفكار كنقرات الكترونية لا تتطلب ردود فعل بشرية كالتي نراها الآن، عندها سيكون الحوار دائراً بين كائنات آلية مُفرغة من المشاعر.
القيم الشائعة في المجتمعات لها دور كبير في بلورة ثقافة الشعوب وفهم معنى حرية التعبير، الأمر الذي يجعل من احترام خصوصيات الأخرين وعاداتهم ومفاهيمهم أمر لابد منه لضمان استمرارية عيشنا معنا. فمثلاً ورغم ان فكرة حرق الكتب المقدسة استفزازية أكثر من ان تكون طريقة للتعبير عن الرأي، الا ان ذلك لا يحرك ساكناً لدى الشعوب الأوروبية، ليس لأنهم لا يحترمون الأديان بل لأنهم يجدون ان الدين هو علاقة خاصة يحددها الفرد بما يؤمن به، لكن وعلى العكس من ذلك يثير الكذب والتزاحم في الطابور غضب السويدي المعروف بهدوئه المثير للدهشة.
ما أبعد ان تعني حرية التعبير، المساس بخصوصيات الأخرين او إهانة مقدساتهم او احتقار معتقداتهم او إفساد حياتهم، فالحرية بكل أشكالها لا يمكن ان تكون حرية بدون ان يوازيها نفس القدر من المسؤولية. مسؤولية ان نتحمل نتائج ما نقوم به من أعمال وما ننطق به من أفكار واقوال، هناك بالتأكيد طريقة للنقاش وابداء الرأي من اجل الفهم او توضيح ما هو غير واضح، والوصول ربما الى شيء جديد يعود بالفائدة، لكن ان تتحول اختلافاتنا الى خلافات واثارة الكراهية بين الناس، فذلك امر لا يرضى عنه لا الله ولا القيصر.
لينا سياوش
مقالات الرأي تعبر عن رأي أصحابها وليس بالضرورة عن SWED 24