رأي: أمس وصلت جدة ابنتي ليلك وابني ألان الى نقطة الحدود الأوكرانية البولونية عند منطقة مدينة لفيف الحدودية، وبعد اكثر من عشرة أيام من المعاناة والألم وانتظار المجهول ومتابعة أخبار القتل والدمار والصواريخ، عاشتها في ملجأ من ملاجئ المدينة التي تسكنها وسط أوكرانيا ليس بعيداً عن العاصمة كييف.
منذ سماع أول أصوات الصواريخ في 24 شباط 2022 التي طالت تقريبا جميع المدن والبلدات وحتى اقتناعها بفكرة ترك الوطن مؤقتا، ظل الحفيدان ولدي وابنتي ومعهم امهم في تواصل مستمر لإقناع الجدة المريضة كبيرة السن في ضرورة اتخاذ القرار ولو لحين وحتى توقف الحرب أوزارها وتتوقف لغة القتل والدمار.
في الملجأ القديم والبارد الذي ضمهم، والذي لا يصلح للبقاء مع انقطاع الكهرباء والخدمات فيه، كانت حكايات الحرب وأخبارها الشغل الشاغل للناس وخصوصا موضوع المصير والموقف من قضية البقاء في الوطن وتحمل ما لا يطاق تحمله، أو اختيار طريق المغادرة واللجوء نحو البلدان المجاورة وغيرها، وهو امر الحلول.
المواطن الأوكراني متمسك ومنذ القدم بجذوره وبتربة وطنه، وظل على الدوام يكدح لتعميرها ورقيها ومجابهة الأهوال التي أحاطته بسبب لعنة الجغرافية وضريبتها الباهظة أحياناً.
ورغم الظروف الكالحة والمتنوعة التي مرت على تاريخ هذا البلد لم يشهد التاريخ موجات نزوح كبيرة كالتي نشهدها اليوم والتي تتزامن مع شدة الهجوم والغزو الروسي وشموله جميع أجزاء البلاد، مع تزايد المخاوف من تطوره لإبعاد أكبر خصوصا وأن هناك عدد من محطات الطاقة والكهرباء التي غدت قريبة من الصواريخ والرصاص والتي من شأنها ان تحدث كوارث انسانية من الصعوبة تقدير مداها ونتائجها.
دولة أوكرانيا ترتبط جغرافيا بحدود طويلة مع جمهورية روسيا التي تحدها من جهة الشرق، ومع بيلاروسيا من الشمال، ومع بولندا وسلوفاكيا والمجر من الغرب، وأيضا مع رومانيا ومولدوفا من الجنوب الغربي. كما ترتبط دولة أوكرانيا جنوباً مع العالم بحرياً من خلال البحر الأسود وبحر آزوف. ومع تطور يوميات الحرب يضطر الناس لترك منازلهم وبيوتهم ومدنهم صوب هذه الحدود الطويلة والبلدان العديدة وفي مشاهد مؤلمة ومؤثرة نقلتها معظم شاشات التلفاز ووسائل الاعلام المختلفة.
مستوى التضامن مع محنة أوكرانيا والتعاطف مع شعبها ومع محنة اللاجئين فيها، وصل الى مديات كبيرة شعبية وحكومية وفي كل بقاع كوكبنا الأرض.
“في الحروب يتعاظم بازار التضليل الاعلامي والدجل وتتفنن طرق المونتاج والأفلام وكل وسائل الدعاية السياسية من أجل الترويج والكسب”
هذه المواقف الشعبية الانسانية تنطلق من منطلقات بعيدة عن تأثير السياسة وتخضع لاعتبارات إنسانية والتي لا تتشابه مع مواقف البلدان والحكومات التي يتحكم فيها عدد منها المصالح والمواقف السياسية.
في الحروب يتعاظم بازار التضليل الاعلامي والدجل وتتفنن طرق المونتاج والأفلام وكل وسائل الدعاية السياسية من أجل الترويج والكسب، وعبر الوقوف مع جهة من الجهتين، بعضهم مع الطرف المهاجم وآخر مع الطرف الذي يجابه ويدافع.
ومن أجل تبرير الحرب العبثية ومساندة مشعليها يتم الاختباء خلف المبررات والأسباب والبحث في بطون الكتب، وتسويد صفحة بلد الطرف الضحية وتبشيعه، وإعطاء الشرعية للجانب المهاجم بالاستناد الى أسبابه ومبرراته والتي يمكن لبعضها أن يكون صحيحا، ومحاولة الترويج لها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، متناسين أن مقابل مبررات الحرب الكثيرة هناك الكثير من مبررات السلام وتحكيم العقل والتي يفترض لها أن تسود وتعيد السلام بين الشعبين والدولتين المتجاورتين.
ومع استمرار قرع طبول الحرب وتعاظم مآسيها واستمرار تدفق اللاجئين الفارين من جحيمها الى الحدود البولونية والرومانية والمولدافية والمجرية وغيرها، ومقابل اشكال التضامن والمساندة الانسانية والوقوف مع محنة اللاجئين الأوكرانيين، تتعالى بعض الأوساط في بلداننا العربية وأماكن أخرى، متنمرة ومشككة ومتجاهلة لهذه الكارثة، مع محاولة عقد مقارنات بين هذه الكارثة وبين كوارث سبقتها لمواطنين من بلداننا المبتلات أصلا بمصائب وكوارث الحروب.
الذي يجمع ويوحد كل الذين يعانون من مصائب الحروب والكوارث والعنف، والذين يضطرون مرغمين على ترك أوطانهم وعلى مدى التاريخ، هو ان وجعهم ونزيفهم وألمهم واحد يتلخص في معاناة ألم وتبعات أثر ترك وطنهم الأم واللجوء لبلدان غريبة، ورغم ما تقدمه هذه البلدان من استقرار وراحة وعيش هانئ بعيداً عن الذي خلفوه في بلدانهم الأم.
ورغم تشابه منطق الحرب ودمارها، فان هناك تمايزاً في الجغرافيا والحدود وطبيعة الدول المجاورة، والظروف الجيوسياسية التي تفرض وقائعها في الحرب التي تشن في كل بلد.
هذه الوقائع تكون حاضرة وترافق أجواء وتفاصيل قصص وحكايات الفرار والهروب واللجوء، المتشابهة في الجوهر والمختلفة في الاشكال.
ومن اجل تجنب لزوم ما لا يلزم فليس من الصحيح توجيه اللوم والتنمر واللامبالاة لجموع الأمهات والنساء وكبار السن والأطفال من اللاجئين الأوكرانيين، بحجة ان هناك قطارات و باصات مريحة كانت تنقلهم، وأن هناك استقبالاً جيداً تم لهم من قبل الدول المجاورة التي التجئوا اليها ومن جهات مختلفة.
لا يختلف اثنان حول الكارثة الانسانية التي حلت بالشعب الأوكراني، وفي مشروعية التعاطف والتضامن معه وبغض النظر عن المواقف السياسية وبكل مشاربها وغاياتها.
لقد اكتسب هذا التعاطف والتضامن مدى واسعاً لأسباب كثيرة منها الرفض والتنديد بمنطق احتلال الدول عبر الحرب والعنف وبغض النظر عن صواب أو خطأ المبررات والأسباب وشمولية الحرب لمعظم المناطق وعبر استخدام الأسلحة الفتاكة والمدمرة، وموقع الكارثة القريب من دول اوروبا والدول الغربية، والمساحة الجغرافية لأوكرانيا باعتبارها أكثر الدول الأوروبية مساحة وبعدد نفوس يصل لأكثر من ٤٠ مليون مواطن، وقرب حدودها من دول كثيرة صارت محطات لاستقبال وخدمة للاجئين و تخفيف مصائبهم ومعاناتهم.
ليس من ذنب ارتكبه أو يرتبكه اللاجئ الأوكراني حين يفر حاملاً حقائب ملابسه وحاجاته الشخصية، حين يتم مقارنته ظلماً بلاجئ آخر في حرب ما لم تسعفه ظروفه في حمل حقيبة ( في كل مكالمة او اتصال تسألني المرأة الأوكرانية الطيبة لوبوف كريكورفنا جدة أبنائي ليلك وألان، عن العراق وأحوال الناس ومعاناتهم وعن أهلي ومدينتي، ورغم أني لم اعد اعيش مع ابنتها أم أبنائي ومنذ اكثر من عشر سنوات).
ولا يحق لأحد ان يطلب من هام على وجهه مشرداً وسط دوي المدافع وصفارات الإنذار عدم استخدام القطارات والباصات التي توفرت له، للاكتظاظ فيها ولساعات معاناة طويلة وقاهرة، من اجل ان توصله لحدود دولة مجاورة وبشكل مجاني، وأن يتخلى عن ذلك ويلبس الملابس الرثة ويهيم في الغابات وسط الثلوج طلباً للأمان ليثبت انه لاجئ حقيقي حسب تصنيف بعض البطرين، وكأنهم يريدوا تذكيرنا بمأساة الشعب الكوردي وأنفال حزب العصابة الصدامي الذي أجبرهم للفرار وسط طرق الجبال الثلجية وتحت قصف الطائرات والمدافع، أو بغيرها من أهوال اللاجئين ومعاناتهم في اماكن مختلفة من العالم..
لقد قدم طوعاً الى الحدود التي تفصل أوكرانيا عن جيرانها، ألاف الأشخاص والمعدات والحاجات ولوازم مساعدة اللاجئين، ومن دول أوروبية مختلفة وغيرها، متطوعين من اجل المساعدة وبكل الاشكال للتخفيف من معاناة العائلات والأطفال والمرضى.
في أيام الحروب والكوارث والمعاناة والحاجة يكون من الصعب الطلب من المقهور والهارب من جحيم وكارثة المأساة ان يميز بين ما يقدم له من مساعدة ودعم وتضامن، وأن يقبل هذا ويرفض ذاك..
“لا تكتفي الحروب بالكشف عن اسوء غرائزنا، بل تصنعها”.
الموقف الانساني والدولي من ضحايا الحروب والكوارث والعنف والاضطهاد وبكل الوانهم وقومياتهم وأديانهم ومذاهبهم وعرقهم وجنسهم، يفترض ان يبتعد عن معايير السياسة والمصالح وان يخضع لآليات وقوانين مقرة ومعروفة وفي كل الحالات.
كما من المهم ابتعاد جميع الدول والحكومات عن توظيف معاناة ومآسي الحروب واللاجئين لأغراض سياسية وحزبية وكسب انتخابي رخيص، أو توظيفها للدعاية السياسية والترويج السياسي..
في الذي جرى في اوكرانيا يفترض أخذ الحقائق في ما يخص مواقف الدول الأوروبية وغيرها من قضية لجوء اللاجئين إليها ومنها التسهيلات الكبيرة والمشرعة للمواقف والإجراءات بخصوص مواطني الدول الأوروبية نفسها، والتي التجئوا إليها في التعامل تزامناً مع تقارب الموقف الرسمي الأوكراني من الاتحاد الأوروبي والرغبة في الانضمام إليه والخلاف السياسي والعسكري بين روسيا من جهة وبين دول الاتحاد الأوروبي والناتو من جهة أخرى، وليس من ذنب وجرم للمواطن حين يتم تسهيل بعض اجراءات لجوئه والتي ستكون في كل الاحوال مرتبطة بالموقف الزمني للحرب والتي ستختلف وتتأثر لاحقاً تبعا لظروف ووضع كل بلد، خصوصاً اذا ما علمنا ان المواطنين الأوكران والروس ومواطني الاتحاد السوفيتي، لم يكن حالهم في قضايا اللجوء بأفضل من أقرانهم من الدول الاخرى قبل أن تقرع طبول الحرب اليوم.
من حقنا جميعاً أن نعلي الصوت في ضرورة وجود مواقف لجوء انسانية تخص وتشمل جميع القادمين من كل البلدان، وفي كل الأوقات، وعدم الموسمية في الموقف هذا وتزامنه مع محن وأوجاع الآخرين وبشكل يظهر وكأنه عدم اكتراث ولا أبالية وأن لا يصيبنا الحيف وعدم الرضى والاستكثار في ما يقدم للمليونين بشر من ضحايا الحرب من اللاجئين الأوكرانيين الذين لا رغبة لهم في التنافس حول من هو الذي أكثر ضرراً ومعاناة.
لقد كان الكاتب والفنان امين معلوف محقاً تماماً حين يكتب: “لا تكتفي الحروب بالكشف عن اسوء غرائزنا، بل تصنعها”.
ما احوجنا اليوم لموقف انساني بعيداً عن اسقاطات السياسة والوقوف لتشجيع هذا الطرف أو ذاك والتعويل على معاول الهدم الحربية في بناء وتطور حياة ومستقبل الشعوب والبلدان.