بعد غياب وغربة طويلة زرت بلدي الحبيب (العراق)، وبالذات لزيارة بغداد .. لكن بسبب وجود أبن خالتي هناك، ووجود أولاده في البصرة طلبت منه أن يساعدني في الذهاب الى الأهوار جنوب العراق ..
كانت سفرتي تهدف الى تنظيم احتفاليات لطبع كتاب عن الشهيدات الشيوعيات بعنوان ( شموس ساطعة، شهيدات الحزب الشبوعي العراقي منذ ١٩٣٤ ولغاية ٢٠٢١)، في احتفالات أقيمت في كل من أربيل وبغداد والبصرة والناصرية .. وبعد الانتهاء من الاحتفالية في البصرة، وفي اليوم التالي، انطلقنا الى القرنة ووقفنا عند التقاء دجلة والفرات .. كما زرنا شجرة آدم .. كنا خمسة اشخاص سافرنا بالسيارة الى الجبايش ، وهناك شباب بالمشاحيف يلتقوا السواح .. تفاهمنا على مشحوف انطلق بنا الى قلب الهور ..
وبمنظر خلاب جدا .. في تصوراتي عن الهور وما جرى من تجفيف وتسميم للحياة في زمن الطاغية .. والمشاكل البيئية في السنوات الاخيرة حيث الاحتباس الحراري، وقطع المياه عن العراق من قبل جارتي العراق ، تركيا وايران، تصورت ان المياه قليلة .. لكن بالحقيقة كانت هناك وفرة بحيث ان احدنا نزل الى الماء ليكون عمق الماء بطول الرجل ، اي حوالي 170 سم .. وهو ليس عميقاً ولكنه في كل الاحوال أفضل مما كان ..
البردي في كل مكان يعلو الى ارتفاعات ليست شاهقة كالسابق ، كما كنا نرى في الافلام الوثائقية، ولا الاكتضاض المعهود .. والجزر الوسطية التي يبني عليها عرب الاهوار بيوتهم ليست بالواسعة ولكنها على اي حال يبدو انها كافية .. جلسنا في احدى تلك الجزر واعتقد انها مخصصة لاستقبال السواح ..
فعرب الاهوار بدأوا يفكرون بأن السياحة في الاهوار مصدر رزق لهم .. ولكنهم شكوا من قلتها لعدم توفر مستلزمات السياحة .. في هذه الجزيرة بيت من القصب وباحة مسقفة واخرى مفتوحة، والى جوارها مكان للشوي وقد وفر عرب الاهوار الاحتياجات اللازمة .. وهناك شي ما سمي بال (الحمام) .. الأرض في كل الاماكن فرشت بالبردي، والجلوس على اليردي مريح ، لمن يتعلم الجلوس على الارض ، لان من له اشكالات في المفاصل من الصعب عليه ذلك ..
“.. وأفترشنا الأرض”
افترشنا الارض ونشرنا حاجاتنا من المأكل والمشرب .. كان الجو جميلاً .. الثالث من أبريل / نيسان والحرارة كانت 28 مئوية والريح عذبة تداعب الماء الذي يعطي للمكان رونقاً وعطراً .. واثناء تناولنا للأكل والشرب، زارنا شباب من عرب الاهوار .. شاركونا الجلسة، وكانوا طيبي المعشر وخفيفي الظل ، كما يقولون، قدمنا لهم الأكل والشرب وبدأوا بالغناء، حيث اصواتهم العذبة .. وبالصدفة التقينا مندوب شركة اعلانات اجرى معنا لقاءا صحفيا حول السياحة في الاهوار ..
وأشرت له بان السياحة هنا تحتاج الى رعاية كاملة من قبل الدولة وكذلك من قبل المستثمرين ، بحيث يتواجد فيها جملة قضايا منها الفنادق والكافتريات والمطاعم ووسائل التسلية والالعاب المائية .. كما انها تحتاج الى تنظيم واعادة رسم خارطة الهور ، وتثبيت قطع واضحة للدلالة على الاماكن وكذلك طرق السير واتجاهاتها .. وتحتاج ايضا الى مصدر صوتي توضيحي للزائرين عن المنطقة ومعطياتها الجغرافية والتاريخية وسكانها ومصدر معيشتهم .. يبدوا ان هناك اوقاتا لرعي الجاموس من الصباح الباكر ولغاية الساعة السادسة مساءا .. فلم نجد الجاموس في الماء، وقد يكون هناك اماكن محددة لها .. ولكننا وجدنا اعدادا منها تتجول في الطرقات ..
كما اننا شاهدنا العوائل في بيوتاتهم التي هي من القصب ايضا وهناك حركة مستمرة لافراد الاسرة .. اطفال ونساء .. وبعد ان انتهينا من الاكل والشرب .. استقلينا المشحوف الذي انطلق بنا بعرض الهور .. احساس جميل جدا .. على الرغم من قلة المياه لكنك تحس بطبيعة فريدة من نوعها .. يقولون ان المعارضة الوطنية للانظمة البائدة وجدت لها ملاذ آمن هنا في الاهوار .. اذا تعال الى الاهوار لتجد الامر على الطبيعة .. مياه وبردي وقصب ينتشر ليغطي مساحات الهور الشاسعة وتشق الطبيعة هناك شوارع طبيعية من الماء التي لا يمر بها سوى المشاحيف .. وان اردت ان تختفي لا عليك الا ان تدخل في جوف الهور وبين القصب .. ساعات قضيناها لم تكن كافية، وخصوصا لمن يريد معرفة المزيد وليس كسائح .. كان ينقص الهور الطيور التي يشاع انها مأوى لانواع مختلفة من الطيور المهاجرة .. كما اعتقد انها لك تكن غنية بالاسماك .. فالثروة الحيوانية والسمكية بحاجة الى ان تتطور هناك .. انك ، وانت في عمق الاهوار، تنجذب الى منظر خلاب حيث السماء والماء والقصب لتشكل اجمل لوحة طبيعية .. عموما، هي اوقات لا تنسى ابدا ..
الدكتور سعدي السعدون – ستوكهولم