صدرت عن دار نشر أبيك في سبونغا ـ ستوكهولم النسخة الثانية من كتاب “طائر تشرين- من أبو غريب الى المنفى، للمؤلف د. منهل سيرت وهو كتاب سيرة ذاتيّة كُتِبَ بإسلوب أدبي شاعري ومتفرّد حيثُ يُمثل الكتاب رواية فترتين مهمتين من حياة المؤلف وهما فترتان متوازيتان في مضمونهما الإنساني والسياسي:
الفترة الأولى كانت في سجون العراق، السجن الصغير في أبو غريب والتي استمرت 45 شهراً (آب 1982 ولغاية أيّار1986)، والسجن الأكبر في العراق كُلُه والتي استمرت خمس سنوات وانتهت بمغادرة المؤلف للعراق بشكل نهائي في تمّوز 1991.
أمّا الفترة الثانية (أيلول 1991 ـ أيلول 1993) فقد كانت في المنفى السويدي حيثُ رُفضَ طلب لجوئه السياسي في دولة كانت تٌمثّل إحدى أفضل الدول الأوروبية في صون حقوق الإنسان المُضطهد سياسيا في بلده الأم.
ضمن هاتين الحياتين والتداخل فيما بينهما إستعرض د.سيرت أهم لحظات حياته في السجن والمنفى مع التركيز على المواقف الإنسانية والسياسيّة في فواصل هامّة من الأحداث لاسيّما في العراق وذلك من منظور مُراقب موضوعي إنغمس لحد الموت في هذه الأحداث وبذلك صار شاهداً صادقاً وناقلاً دقيقاً لها.
يستعرض الكتاب سنوات السجن في أبو غريب والتي كانت في ثلاثة مراحل:
1. الإعتقال والتحقيق والتي دامت تقريباً سنة كاملة تنقل فيها في مواقف الأمن والإستخبارات العديدة في بغداد لغرض التحقيق، وصولاً إلى محكمة الثورة حيثُ تمّ الحكم عليه بالسجن المؤبد.
2. فترة السجن في قسم الأحكام الخاصّة والتي دامت حوالي 16 شهراً حيثُ مكث مع رفاق السجن في زنزانات بمُعزل عن العالم والحياة والشمس وبدون مقابلة الأهل والأصدقاء وبدون القراءة أو الكتابة أو حتى حديث سوى الهمس.
3. فترة السجن في قسم الأحكام الخاصّة أيضاً والتي دامت 17 شهراً كمساجين كان يُسمح لهم بمقابلة الأهل والأصدقاء مرّة واحدة كل 3 أسابيع، وكان يُسمح لهم بالقراءة والكتابة (تحت المراقبة الشديدة من أفراد الأمن)، والتي إستمرت حتى إطلاق سراحه بعفو عام مشروط وذلك لحاجة العراق لمقاتلين في حربه مع إيران.
كما يستعرض الكتاب بشكلٍ موازٍ السنتين الأوليتين للمؤلف كلاجيء في السويد لغاية حصوله على العمل، حيثُ يطرح بأسلوب أدبي مؤثّر المصاعب النفسية والحياتية في بلاد يطبع البرد علاقات المجتمع الجديد مع اللاجئين، الذين دأب معظمهم للحصول على الإحترام والإنتماء في بلد صار وطناً بديلاً لهم كما يُفترض سيّما وقد حرق مُعظمهم مراكب العودة لوطنهم الأم.
يقع الكتاب في 225 ورقة من حجم A5 ويتضمن 36 فصلاً مقسومة بين السويد والعراق على التوالي. لغة الكتاب العربية والسرد فيها مُركّز ومباشر ويُظهر مواقف الإنسان بشكل عام بدون بطولات زائفة وحيثُ تكون البطولة الوحيدة إن صح التعبير هي في الصمود دون التلوّث. تبدأ كل فصول الكتاب بأبيات شعرية كتبتُ مُعظمها في فترة السجن الثالثة أو من اقتباسات لشعراء عرب وعالميين، تكوّن مدخلاً لموضوع الفصل. تمت ترجمة فصولا من الكتاب للإنجليزية ونُشرت في مجلة بروكلين ريل الدورية في نيويورك في عددها في 21 يناير 2020.
الهدف من نشر الكتاب هو مشاركة القاريء أولاً لتلك الظروف التي عاشها المؤلف والتي كانت تُمَثّل مفاصل مهمّة من تأريخ العراق، والتي تأسس عليها وإستمرّ بعدها إنحطاط العراق بكل مآسيه المُستمرة لغاية اليوم. وثانياً لتقديم تجربته المُعاشة كلاجيء كان ممنوعاً عن العمل والدراسة لحين الحصول على الإقامة الدائمة، مع إستعراض مصاعب العيش كلاجيء في الوطن البديل وصراعه للتأقلم في محيط غريب.
مقتطفات من الكتاب:
“جاء نوفمبر وإختفى عُرس الألوان في الشجر، وصار الليل يُخيِّم في الثالثة والنصف بعد الظهر. أمّا الثلج فكان ينهمر بشراسة ليقتل الظلام فتصنع إلتماعاته دروباً من الفضّة نُميّز بها طُرقاتنا بين الشجر العاري نحو غرفنا الدافئة. في خِضَم هذا البرد والعُتمة أمست كريستينا شمعة تضيء لي عُتمة المكان وتجعل المستقبل أزهى وأجمل … كانت أصابعها الحانية تتلمس الخدود الغائرة في ظهري وتتسائل عن ماهيّة أولئك البشر الذين ينحتون خرائط القهر والعذاب على أجساد الرجال؟”
“هل تعلمين كيف يمكن أن يعيش المرء مع ثلاثين فرداً في خمس أمتار مربعة ودرجة الحرارة تزيد عن الأربعين؟ وهناك متر سادس هو مرحاض فيه صنبور للماء لا يجري الماء فيه إلاّ لملء سطل صغير وحيد ولكن فقط عندما يسمح بذلك سجّانونا. كُنّا نشرب من ذاك السطل أيضاً .. كُنّا نتنفس هواءً مُشبّع بالعرق والبول والغائط وكان دبقاً وكأنّه هُلامٌ قابلٌ للتقطيع.”
“كانت شقلاوة بيتي في الشتاء. أزورها مع أخي الصغير و”أمين” صديق الدراسة والنضال وبعض الأصدقاء القلائل لننحت خطواتنا في ثلجها المُقيم ونُعلن إنتمائنا لإنسان لايُميز العِرق واللون والمنبت. كُنّا نغني “أي رقيب” معاً ونسكر معاً و نتجمد معاً تحت سماءها النقية.”
“يوسف و دانيال وغيرهما كثير يمثّلون شريحةً من اللاجئين أو المهاجرين الذين ماتت وإنطفأت أحلامهم لأسباب مُتعددة، أو الذين فقدوا ماهيّتهم فأضاعوا الطريق نحو المُستقبل في بلد المهجر وقد سبق أن أضاعوا طريقهم في بلادهم الأم، فأمسَوا معلقين بين عالمين لا يستطيعان الإنتماء إلى أيٍ منهما. بيد أن مأسآتهم ظلّت متشابهة في ثقلها الإنساني سواء في المهجر والغربة أو حتى في أوطاننا الموجوعة والمفجوعة دوما.