تتشكل هوياتنا في تفاعل مستمر مع البيئات التي نعيش فيها، ولكن ماذا يحدث عندما تقع هذه الهويات في مفترق طرق بين ثقافات متباينة ومعايير متضاربة؟
هوية ضبابية في عالم يجمع بين تقاليد الشرق وديناميكيات الغرب، ماذا لو كان لدينا نصف وطن، نشعر في ظله بالإنتماء؟
عندما يجد الإنسان نفسه معلقًا بين ثقافتين، يصبح العالم مسرحا واسعا لمعركة هوية مستمرة. في هذه الحالة، لا يحمل الشخص هوية واحدة ثابتة، بل يتأرجح بين هويتين مختلفتين، تتشكل كل منهما في سياق ثقافي متباين. هذا الوضع يخلق تجربة قد تكون غنية لكنها معقدة في ذات الوقت، حيث يجد المرء نفسه متنقلاً بين عوالم مختلفة، لكل منها قيمها وتوقعاتها.
في الشرق، حيث الصراعات تلقي بظلالها على مسار التطور البشري، يعاني كثيرون من تحديات تمس الجوهر الإنساني نفسه. هنا، تُشكل القضايا السياسية والاجتماعية جزءا لا يتجزأ من الحياة اليومية، وغالبا ما تُحدد هذه العوامل كيفية تفاعل الأفراد مع بعضهم البعض ومع العالم الأوسع.
للمغتربين القادمين من هذه البيئة، يبقى الشوق إلى الوطن عنصرا دائما في تكوين هويتهم، حيث يظلون مرتبطين بتراثهم الثقافي ولكنهم في الوقت نفسه يتأثرون بالديناميكيات الجديدة للمجتمعات المتمدنة التي يعيشون فيها.
في الغرب، حيث تسود آلة العمل والتكنولوجيا، يجد الكثير من المغتربين أنفسهم يصارعون للحفاظ على توازن بين متطلبات الحياة المعاصرة والحفاظ على هويتهم الثقافية. في هذه البيئة، تعتبر السرعة والكفاءة من القيم العليا، وغالبًا ما يشعر الأفراد بأنهم يفقدون جزءًا من ذواتهم في زحام الحياة اليومية.
هذا الضغط للاندماج، يؤدي بدوره إلى نوع من الاغتراب الذاتي، حيث يجد الفرد نفسه مقسما بين الحفاظ على تقاليد وطنه الأصلي التي تغيرت هي الأخرى، والتكيف مع المعايير الجديدة.
من هذا المنطلق، يصبح التحدي الأكبر للمغتربين هو إيجاد هوية متوازنة تجمع بين أفضل ما في كلتا الثقافتين. هذه العملية ليست سهلة بالمرة، وتتطلب وعيا دائما وتقييما مستمرا للقيم والمعتقدات الشخصية. تتطلب من الفرد أن يكون لينًا ومرنًا في التعامل مع تناقضات الحياة بين ثقافتين، مع الحفاظ على احترام وفهم عميق لكلتا البيئتين، والحفاظ على نفسه من الضياع في الهاوية التي تفصل الثقافتين، فشتان ما بين الاثنين.
تكمن المأساة في أن الوطن الأم، بكل ما يحمله من ذكريات وألفة، يتأرجح تحت وطأة الصراعات والفساد والسرقات، التي حالت دون التركيز على تطوير الوعي الذاتي للفرد ودون مراعاة لآمال الشعب الباحثة عن السلام والاستقرار. مقابل ذلك، يظهر الغرب بثقافته المتقدمة وتكنولوجيته الرائدة، لكنه غارق في ازدواجية معاييره وسرعة آلته الصناعية التي لا ترحم والتي تترك الفرد غارقا في دوامة من العزلة والاغتراب والعمل الشاق الذي يسلب سنوات العمر.
كلما طال الزمن، كلما زاد شعور الفرد بالبعد عن المجتمع الجديد. تبدو اللغة أقل وضوحا حتى لو أتقنتها، والتقاليد أكثر غموضا، والألفة التي كان يأمل تحقيقها تظل بعيدة المنال. كان من المفترض أن يكون الاندماج أسهل مع مرور الوقت، لكن الواقع يكشف عن جدران مرئية وأخرى خفية تعزل الوافدين الجدد عن نسيج المجتمع الأوسع.
لماذا لا يوجد مكان يجمع بين الأمن والاستقرار والمواطنة التي نفتقدها في الشرق والتقدم والانفتاح الذي يتمتع به الغرب؟ تظل الأرض التي توفر ملاذا آمناً وفرصا متساوية للجميع حلما يراود الكثيرين، حيث تمتزج الثقافات وتنصهر الاختلافات في بوتقة الإنسانية المشتركة.
هل حقًا يمكن للمرء أن يجد مكانا في هذا العالم يشعر فيه بأنه ليس غريبا؟
يبقى الجواب معلقاً في الأفق، بينما يواصل المغتربون رحلتهم الطويلة بحثا عن هوية تتسع لروحهم المشتتة وقلوبهم المتعبة.
قد يكون البحث عن مكان يجمع بين أفضل ما في الشرق والغرب أشبه بمحاولة العثور على مقهى يقدم قهوة تركية أصيلة وفرابوتشينو في نفس الكوب. ربما يبدو الأمر غير ممكن، ولكن، مهلاً، لا يضر أبدا الحلم بأن هناك مكانا ما، ربما على كوكب آخر، حيث يمكن للمرء أن يشعر بالانتماء دون الحاجة إلى التنقل بين جوازات سفر متعددة أو الشعور بالحنين لأماكن نسيت كيف تكون موطنا.
لينا سياوش
مقالات الرأي تعبر عن رأي كتابها وليس بالضرورة عن SWED 24