رأي/ لم يعد الحزن في عصرنا الراهن شعوراً يأخذ مداه الطبيعي، بل أصبح أشبه بطوفان متسارع لا يمنحنا فرصة لالتقاط أنفاسنا. بالكاد نسمع عن مأساة حتى تفاجئنا أخرى، تليها ثالثة، دون أن نتمكن من فهم الأولى أو استيعاب وقعها. الحياة بوتيرتها العنيفة أصبحت وكأنها قطار مندفع، يمر بمحطات الألم واحدة تلو الأخرى دون توقف. هذا الإيقاع الوحشي لا يسمح لنا بفهم ما يجري أو المرور بمراحل الحزن الطبيعية، ما يجعلنا غارقين تحت تراكمات ثقيلة من المشاعر غير المحسومة، وعاجزين عن التعافي.
يقول الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور: “الوعي المستمر بالألم دون فرصة للراحة يحول الإنسان إلى ظلٍ مرهق، فاقد القدرة على الفرح أو حتى الحزن الحقيقي.” وهذا تماماً ما نعيشه اليوم. في الماضي، كنا نحزن على كل مأساة بمفردها، نمنحها وقتها، نناقشها، نتصالح معها. أما الآن، فالأحداث تتسابق حتى مع قدرتنا على الشعور. فقدان شخص عزيز؟ قبل أن نستوعب الفاجعة، يصل خبر كارثة عالمية. هجوم إرهابي! بعد لحظات، زلزال مدمر يقتل الآلاف. أصبحنا في حالة دائمة من الصدمة غير المكتملة، وكأن الحياة تختبر مدى قدرتنا على التحمل قبل أن ننهار.
قديماً، كنا نحزن ببطء، ندفن موتانا بكرامة، نجتمع حول بعضنا للمواساة. أما الآن، فالأحداث تتسارع لدرجة أننا بالكاد نرفع رؤوسنا من تحت الأنقاض قبل أن تهدم فوقنا من جديد. أصبحنا نعيش تحت وطأة أحزان متراكمة، متداخلة، غير مكتملة، حتى بات من الصعب معرفة ما الذي نحزن عليه بالضبط: ضحايا الزلازل؟ الحروب؟ الحوادث الجماعية؟ مذابح إرهابية؟ ازدواجية المعايير في توصيف الجريمة؟ إرهاب أبيض وآخر أسود؟ أم ربما نحزن فقط على أنفسنا، لأننا لم نعد نملك رفاهية الحزن النظيف والصافي؟
لكن ماذا يحدث للإنسان عندما يُحرم من حقه الطبيعي في الحزن؟ الإجابة تكمن في هذا الكم الهائل من القلق، التوتر، وانعدام الشعور بالأمان وجبل كبير من خيبات الأمل. عندما لا تجد المشاعر منفذاً للخروج، فإنها تتراكم في زوايا النفس، تُثقِلها، تُطفئها، حتى يصبح الفرد غير قادر على الشعور بأي شيء بعمق، لا بالفرح ولا بالحزن.
يقول الفيلسوف سورين كيركيغارد: “الحياة ليست مشكلة تحتاج إلى حل، بل واقع يجب أن يُعاش.” لكن كيف نعيش هذا الواقع إذا كان لا يمنحنا حتى فرصة لاستيعابه، إذا كانت الأحداث المتسارعة لا تسمح لنا سوى بقراءة عناوين الأخبار؟
إن هذا التسارع الجنوني للأحداث لا يجعلنا فقط ضحايا للألم، بل أيضا للعجز عن التعامل معه. لم يعد بإمكاننا الحداد، لأن هناك دائما مأساة جديدة تتطلب انتباهنا. لم نعد نجد الوقت للبكاء على من رحل، لأن الحياة تأمرنا بالمضي قدما. ولا لفهم ما حصل، لأن القادم يكون أكثر تعقيداً. لكن مقابل ذلك، فإن الحزن غير المُعاش لا يختفي، بل يتحول إلى حملٍ ثقيل على الروح، إلى مشاعر غير محسومة تملأ القلب دون أن تجد طريقا للخلاص.
ربما لا يمكننا إبطاء إيقاع العالم، لكن يمكننا أن نقرر كيف نتعامل مع هذا الطوفان. يمكننا أن نسمح لأنفسنا بالتوقف، بالتقاط الأنفاس، بمنح الحزن حقه قبل أن نُجبَر على تجاوزه. يمكننا أن نغلق الشاشات لبعض الوقت، أن نتحدث، أن نسمح لأنفسنا بالشعور، لأن الفاجعة الحقيقية ليست في المصائب نفسها، بل في فقدان قدرتنا على التعامل معها كما ينبغي. الحياة لن تتوقف، لكن ربما نحن بحاجة إلى أن نتوقف، ولو قليلا، قبل أن يجرفنا التيار إلى حيث لا عودة.
لينا سياوش