صدر للشخصية السياسية السويدية المعروفة، وزير الضمان الاجتماعي السابق أردلان شكرابي، كتاب جديد بعنوان: “تقاطع طرق” Korsvägar يتناول سيرة وتجربة هذا القيادي في الحزب الاشتراكي الديمقراطي في تحديات الاندماج في المجتمع الجديد.
واعتباراً من 27 كانون الأول/ ديسمبر 2022، أصبح الكتاب متاحاً بصيغته الصوتية على منصات Storytel وBookbeat وكذلك على Nextory.
ترجم الكتاب الى العربية بتصرف الشخصية السياسية والاجتماعية عباس الجنابي.
الكتاب صدر بالتعاون مع الكاتب Jesper Bengtsson مسؤول دار نشر أطلس، ويضم بعد المقدمة 34 فصلاً موزعة بعناية حسب تسلسها التاريخي.
الجنابي خص Swed 24 بهذه المقدمة والترجمة مشكوراً.
عَرضٌ لكتابٍ اعتبره ذو بصمة
عباس الجنابي / أوبسالا
لم يكن اختياري لهذا الكتاب وتقديم عرضٍ مكثفٍ عنه لاعتبار شخصي لصداقتي القديمة مع مؤلفه رجل القانون والسياسة والقائد الحزبي والوزير السابق اردالان شكرابي وإنما لأن الكتاب يصلحُ بطريقةٍ فذّةٍ لأن يكون بوصلةً ساطعةً لأجيالٍ من المهاجرين عن الصمود في مواجهة صعوبات الاندماج في المجتمع الجديد والنجاحُ فيه.
في متن الكتاب يمر الكاتب بأسى على سلسلةٍ من الإحباطات الخاصة بالرفض المتوالي لطلبات الحماية كمهاجر بصحبة والدته ورفض طلب الاستئناف بعد ذلك مما أوشك ان يضع مصير العائلة في مهبِّ الريح. لم تيأس العائلة ولم تنتكس تطلعاتها واضطروا للاختباء لحين مرور المدة الزمنية الواجبة قبل تقديم طلب إقامة جديد.
بطبيعة الحال أدرك اردلان معنى ان يعيش متخفيا مخافة التسفير لانهما بدون إقامة او وثائق رسمية تسمح لهما بالحياة بشكلٍ سوي. كان الامر وبالذات لطفل بمثابةِ استحالة للعيش تحت ظل هذه الظروف وخواء الحياة من الامل كما لو ان الحياة توقفت في المجهول. من سوء حظ العائلة ان قدومهم للسويد سبقه صدور قوانين تحد من قدوم المزيد من المهاجرين ولأن الدولة امست غير قادرة على قبول المزيد وادارة امورهم بسبب الضغوط الاقتصادية وتناقص امكانات الدولة على الاستضافة. وبعد محاولات جديدة نجحت العائلة في الحصول على الاقامة وبدأت تنتظم حياة اردان على مقاعد الدراسة في ربيع عام ١٩٩١ في الصف السادس الابتدائي. كانت اللغة هي العقبة الرئيسية بالطبع. ولع اردلان في الدراسة جعله من المميزين حين كان طالباً في إيران. فترة نصف العام من الاختباء لم تسمح له لتعلم اللغة السويدية كما كان ينبغي له لأنه كان يعيش مع اشخاصٍ يتحدثون اللغة الفارسية فحسب. الا ان طموح الطفل اردلان للتغلب على صعوبات اللغة الجديدة وتعويض ما فاته من وقت جعله ينكبَّ على الدروس بإقبالٍ مضنِ. من خلال تجربته الشخصية أدرك الحاجة الى وقت لتعلّم كيفية التصرّف في السويد. ما هي المعايير المُعتمدة في المجتمع، وما الذي ينبغي فعله ليتمكن الانسان من ولوج بيئة اجتماعية جديدة. الى جانب الدور الهام الذي يلعبه الوسط الاجتماعي المحيط بالشخص لمساعدته في هذا المسعى ليشعر الانسان بأنه في بيته ورغم ذلك يقول (كنت اشعرُ بالضياع في مرحلة الدراسية المتوسطة). إضافةً للدور الهام لوالدتي بالطبع، أسهم الاصدقاء في المدرسة وفيما بعد حين اكتشفت نفسي في السياسة كلُّ ذلك شكّلَ مفتاحاً حاسماً لأعثر على هويتي في المجتمع السويدي.
عام ١٩٩٣ كان بداية تعرّفي على عالم السياسة وبالذات خلال محاضرة لسياسي سويدي في صالة المدرسة (حيث حرّكت حكايته عن انغماره في النشاط السياسي وتركت بصمةً في داخلي وادركتُ من النقاشات السياسية داخل صفوف المدرسة في السويد انها لا تُدار بذات الطريقة كما في إيران، حيث انه في السويد لا يؤدي الافصاح عن الرأي المنتقِد لسياسة الحكومة الى الاقتياد الى السجن).
(لقد استمعت بالمشاركة في النقاشات خلال اللقاءات التي تتناول قضايا اجتماعية. لقد تولّعتُ بحضور دورات خلال عطل نهاية الاسبوع، التعرّف على اشخاص جُدد وخلق روابط مشتركة في النشاط السياسي. أدّت هذه المساهمات الى إعادة نظري بالتدريج بدوري في مجالاتٍ شتّى. وقبل ان أصل تلك المرحلة كنتُ ما زلتُ وعلى الدوام أشعرُ بأنني اردلان المهاجر).
(خلا ل نشاطي في منظمة شبيبة الحزب الاشتراكي الديمقراطي كرّست امسيات و عطل نهاية الاسبوع لمزيدٍ من النقاشات السياسية التي أثمرت الى تمكّني من بلورة رؤيتي في مجموعة من القضايا وزاد ذلك بطبيعة الحال من قدرتي على التعبير و المناقشة مع اصدقاء المدرسة).
شغلت الفتى اردلان في سنواته الاولى في السويد موضوعة ماذا يعني ان يكون إيرانياً في السويد وذلك قبل ان يبلغ العشرين من عمره ولم يدرك حينها الى اين ستقوده هذه النقاشات الداخلية مع نفسه. ما حدث فيما بعد خلال دراسته الثانوية إنه بدأ يشعر إنه بات سويدياً، ولو بشكل جزئي.
جاء زواج اردلان من تيريزا عام ٢٠٠٩ تتويجاً على نحوٍ غير مباشر لنمو الهويتين داخله. فزواجه من شابة اوربية لم يمنعه ان يوصي على اصناف طعام إيرانية ورقص الحضور من اصدقاء و اقارب طرفي الزوج و الزوجة وتحدّثوا بانسيابية أشاعت السرور بين أُناسٍ من أقطار مختلفة.
وتمضي الحياة بالشاب اردلان ويتخرّج من جامعة اوبسالا فرع الدراسة القانونية و يتقدم في مشوره الحزبي و السياسي و يصبح مسؤولا عن تنظيم الشبيبة للحزب الاشتراكي الديمقراطي و يُرشح على قائمة الحزب للبرلمان عن العاصمة ستوكهولم لانتخابات عام ٢٠١٠ وبسبب إخفاق الحزب في الانتخابات العامة رشّحت رئيسة الحزب آنذاك منى سالين الشاب اردلان لقيادة لجنة تقييم نتائج الانتخابات و الخروج بتوصيات لاستعادة الحزب لفعاليته التاريخية و التمهيد للنجاح في الانتخابات التي بعدها اي انتخابات عام ٢٠١٤ التي نجح الحزب فيها بدرج مُرضية.
كانت النجاحات تتوالى في مشواره الدراسي والوظيفي و الحزبي والسياسي ليضع بصمةً ليس في تاريخه الشخصي فحسب و إنما في ان يدُلّنا جميعا من ذوي الاصول المهاجرة على ان سقف الطموح ينبغي ليمسي حقيقة ان يترافق بثبات مع الامل المدعوم بالجهد و المثابرة.
المقدمة:
في كانون الثاني من عام ٢٠١٩ اندلعت حركة الاحتجاجات الجماهيرية الكبرى في إيران. وكما يحدث في كلِّ مرةٍ من هذا القبيل، تابعتُ تطور الأحداث بشكلٍ مكثّف كلّما أُتيحت الفرصة ما بين اللقاءات وأدائي لمهامي في الحكومة. في هذه المرّة كانت الاحتجاجات أكثرُ اتساعا من قبل. حيث تبين إن الجميع قد خرج الى الشوارع. بدأت الأحداث بتعبير الناس عن استيائهم من رفع اسعار الوقود، ولكن سرعان ما تطورت الى ما هو أكبر، الى احتجاجات ذات طابع سياسي.
فجأةً شاهدتُ في أحد الايام مدينتي القديمة شهريار، مسقط رأسي، يومضُ سيلٌ من صورها. كان ذلك شريط فيديو قصير نشره أحدهم على وسائل التواصل الاجتماعي. ظهر فيه شارعاً ماطراً يحيط جانبيه ارصفة عريضة واشجار القيقب الى جانب جموع غفيرة من الناس الذين خرجوا للتظاهر. مدينة شهريار كان أغلب سكانها من المحافظين ومناصري النظام الحاكم. لقد امتدت الاحتجاجات الان حتى هذه المدينة لان حجم الاستياء بلغ هذا المدى.
كان الشارع الذي ظهر في شريط الفيديو هو شارعي. هناك عشتُ اول أحد عشر عاماً من عمري. اشجار القيقب الخضراء كانت ذاتها التي شاهدتها من شباك السيارة الخلفي ونحن نغادر المدينة قبل نحو ٣٠ عاماً باتجاه المطار لنترك إيران.
لقد بدا شريط الفيديو هذا بمثابة رحلة عبر الزمن. كل السنين التي مضت، كل مسارات الطرق التي كان من الممكن ان تأخذ وجهة اخرى. الهجرة، السويد والسياسة.
البشر الذين شاركوا في الاحتجاجات في الشارع قرب اشجار القيقب في شهريار ٢٠١٩ …. كان من الممكن ان اكون أحدهم.
وللأسف مضت احتجاجات عام ٢٠١٩ كما هو معتاد حيثُ تمكنت قوات الامن من مواجهتها وسحقت قوات الامن حركة المقاومة بعنفٍ بالغ. وتشير المعلومات الى ان عدد القتلى بلغ ١٥٠٠ متظاهر. ولكني مدركٌ بأن الناس في إيران لن يسمحوا للسلطات بأن تثنيهم. كما أدرك بأن مدى الاستياء من النظام من السعة بحيث ان التغيير آتٍ لامحالة عاجلاً أم آجلاً.
شريط الذكريات عن حياتي في إيران استيقظ حين شاهدت صور الاحتجاج عام ٢٠١٩ واصبحت عندها جزءا من العمل في كتابي هذا. وهو ليس سيرة ذاتية ببعد سياسي بالمعنى المألوف. الحكاية لا تنفصل عن عهدي في الحكومة السويدية والتركيز هنا ليس ذا صلة بالنقاش السياسي الدائر في السويد رغم ان بعض اجزاء الكتاب تطرقت اليه بطبيعة الحال. وكسياسي انغمرت بهذا النشاط منذ ايام الدراسة. كلّ ذلك بات جزءً لا يتجزّأ من هذه الحكاية وعلى الاقل باعتبارها مدخلاً لحياتي السياسية وذلك لأن الحديث عنها مرتبط بمضمون الكتاب. قصدتُ قبل اي شيءٍ آخر الكتابة عن رحلتي من إيران الى السويد، عن الهوية وبالأصح تعدد الهويات. عن خبرات نشأتي وطفولتي في إيران حيث الضغوط باتت أشد هناك، وهروبي الى السويد ودخولي الى المجتمع ببطء.
ثورة عام ٢٠١٩ كانت واحدة من الأشياء التي اعادت الحياة الى الذكريات، لكن مشروع هذا الكتاب بدأ عام ٢٠١١ حين تحدثنا انا وصديقي يسپر بنگتسون الذي أقنعني بضرورة تسطير ذكرياتي ونشرها بهذا الشكل. الفكرة بدأت في ان ادوّن ذكرياتي بمفردي و يسپر في جواري، ولكن حدث عام ٢٠١٤ ان كلّفت بوزارة بات الوقت المتاح للكتابة غير موجود. واتفقنا على ان ننفذ عملية الكتابة بصيغة حوارات وردود على اسئلة يسپر بنكتسون ليتم فيما بعد مراجعتها وتصويبها عبر لقاءات امتدت على مدى اسابيع وأشهر بعد ذلك. كانت تلك عملية طويلة ومضنية لأني اضطررت لمراتٍ عدة مراجعة بعض الاحداث مع والدتي للتأكد من السياقات والتواريخ التي لم نتناولها سابقاً. وهكذا وخطوة بعد اخرى إسترجعت تفاصيل كثيرة عن احداثٍ وشخصيات وتواريخ خلال تلك السنوات التي مضت. وكانت هذه النتيجة.
بالإضافة ليسپر بنكتسون اود ان اشكر المحررين ريبيكا كرونستين، پيتر خيپستروم، پيتر گوستافسون، ايريك سوندستروم، مايا ستيلينغ، ڤيكتور نيبيرو الذين جميعا راجعوا المخطوطة واعطوا ملاحظات هامة. اود تقديم الشكر ايضاً لرفيقةَ عمري تيريزا والى والدتي سهرا ساجدي. كلاهما لعبا دورا كبيراً في بعض من المفاصل الحاسمة في مسار هذه الحكاية.
اردلان شكراني
كنيڤستا، حزيران ٢٠٢٢
الثالث من حزيران ٢٠٠٩
كان ذلك قبل بضعة ايام من انتخابات البرلمان الاوربي. كنّا في طريقنا جنوباً بعد يومٍ رائعٍ في سياق الحملة الانتخابية. في نهار ذلك اليوم زرنا مدينة تيمرو والتقينا بطلاب ثانوية البلدية خضنا فيها حواراتٍ لطيفة ومفيدة. لقد تناولت في كلمتي موضوعي المفضّل وهو المشاكل التي تعرّض لها الكثيرون وبالذات الشباب بما سمّي قروض الرسائل النصية السريعة. في ذلك الحين كنتُ اعملُ في مكتب محاماة في ستوكهولم واصبحتُ على تواصل مع حالات كثيرة من الناس الذين تضرروا من جرّاء التورط العميق في ديون عالية الفوائد تعرّضوا لهل نتيجة مجرد طلب القرض من خلال رسالة نصّية. لقد تطلّب تنظيم الامر مما جعلني اضعه في صلب حملتي الانتخابية التي سبقت انتخابات البرلمان الاوربي الى جانب إطلاق حملة (skuldsatt.nu)، وكذلك أطلقت شبكة تتألف من الاشخاص المتضررين من فخ الديون.
بعد زيارتنا للمدرسة الثانوية إصطحبنا منسّق الحزب الاشتراكي الديمقراطي في الاقليم بالسيارة الى مدينة سوندسڤال في لقاء في الميدان الكبير. كنّا قبل ذلك قد توقفنا لفترة وجيزة لشرب القهوة في طقس حزيران البارد وتحدثنا الى الناخبين وممثل الحزب. كان هناك الكثير من الناس المهتمين ورافقها الكثير من النقاشات المفيدة.
نجلس الان في القطار متجهين الى مدينة اوبسالا. يوجد امامنا على الطاولة ٣ اكواب ورقية من القهوة السوداء في عربة المطعم يتصاعد منها البخار. كنا الثلاثة انا ومنى سالين و أحد موظفيها ستيفان اينگستروم. حملتنا الانتخابية استمرت طوال اليوم ومن المفروض ان تكون آخر حلقة فيها لقاء مفتوح في ساحة فوروم في اوبسالا. منى سالين كانت بالطبع الاسم الاول في ملصقات الحملة، كانت رئيسة الحزب وكانت متحدّثة رائعة على الدوام وجذبت لقاءاتها المفتوحة الكثير من الناس.
كانت قطرات المطر الحزيراني تُومضُ على شباك القطار. وحينما إجتزنا مناطق ستوكڤيك، دينگرشو، گنارپ و إگسوند تحدثنا عن نشاط الحملة الانتخابية، عن وضع الحزب الذي كان من الممكن ان يكون بحالٍ أفضل و كذلك والحملة ذاتها التي نحن على بُعد أيامٍ منها.
كان قد مضى ما يقارب نصف العام منذ ان سُئلت لأول مرةٍ عن ترشيحي على قائمة الحزب الانتخابية قبل انتخابات البرلمان الاوربي ٢٠٠٩. لقد ترددت كثيرا قبل ان أجبت. لم يكن على الاطلاق من خططي الترشّح للبرلمان الاوربي وإنما على العكس كنت أفكر بشكل جدّي بترك السياسة.
سنوات ما قبل انتخابات البرلمان الاوربي كانت فترة انقطاع بالنسبة لي. ففي عام ٢٠٠٥ تركت مهمتي في قيادة اتحاد شبيبة الحزب الاشتراكي الديمقراطي SSU، وبذلك انتهى عهداً هاماً في حياتي. لقد فكّرتُ بذلك بشكلٍ شبه متواصل خلال نشاطي في اتحاد الشبيبة وعشته في حياتي السياسية. لقد كنتُ محاضراً ومتحدثاً في الاجتماعات والدورات الدراسية وكذلك في الاوقات خارج هذه النشاطات انخرطت بنشاطات سياسية. لقد حلّت السياسة الجانب الاكبر من اهتماماتي الى جانب كونها مدخلاً لي لولوج المجتمع السويدي، وطريقة للبحث عمّا هو مشترك راسخ في سياق السنوات الاولى في بلدي الجديد. في السياسة أمسيتُ شخصاً آخر غير (المهاجر invandrare) اردلان. لقد احببتُ الجدال السياسي، هذه الحرفة السياسية التي يؤدي التحمّس لها تحويل الافكار والمقترحات السياسية الى واقع من خلال حزمة من الادوات السياسية.
ولكن بعد فترة النشاط في صفوف اتحاد شبيبة الحزب SSU كنت قد تركت عملياً العمل السياسي في الحزب ولم تكن لدي ايةَ خططٍ للعودةِ له مجدداً. لقد درستُ القانون وعملتُ لدى مكتب محاماة وخلال ذلك عملت بشكلٍ مؤقت كمدوّن قانوني لدى المحكمة الادارية لمقاطعة يڤلة. لقد استمتعت بالشؤون القانونية، واحببتُ طريقة الاجراءات المنطقية في فحص القضايا والاستدلال للجوهر وصولاً لاتخاذ الموقف والحُكم. في ذات الوقت كنتُ أحنُّ للعودةِ للنقاشات العاصفة ولذلك حين عرض الحزب عليّ الترشّح على قائمة البرلمان الاوربي قبل انتخابات عام ٢٠٠٩ اجبتُ بنعم وكان ذلك يعني إنني قد حسمت امري بأن السياسة ستأخذ مكانها مستقبلاً في حياتي.
اشعرُ بالسعادةِ لأني اتخذت هذا القرار. ومازالت الحملة الانتخابية للبرلمان الاوربي عام ٢٠٠٩ تحمل في نفسي أمتع المعاني في نشاطي السياسي. لقد حصلت على إجازة من عملي في محكمة مقاطعة يڤلة لعدة أشهر وأفردتُ فصل الربيع لجولتي الانتخابية في عموم البلاد للحديث عن سياسة الاتحاد الاوربي الى جانب قيم الاشتراكية الديمقراطية.
لم يبق الان سوى بضعة ايام على انتخابات البرلمان الاوربي. مضت الحملة الانتخابية بالنسبة لي بتسارع لكن لقاءات هذا اليوم اتسمت بأهمية استثنائية. حيثُ سارت حملتي الشخصية بصورة جيدة. ولكني لم أكن موقنا حقاً بقدرتي على حصد ٤٠٠٠٠ صوت المطلوبة، لكني كنتُ واثقاً بأننا قد قطعنا شوطاً على هذا الطريق. ولم يتبقى الان سوى التمكن من المواصلة حتى بلوغ الارض الصلبة. وبناءاً على هذا الامر بات من الطبيعي ان اجني الكثير من مزايا التحدث طوال اليوم وخلال ذات اللقاءات سويةً مع رئيسة الحزب منى سالين.
في ذات الوقت كان ثمة أمرٍ يغلي في داخلي ولم أستطع إخراجه من رأسي، رغم محاولاتي التركيز على مجريات الحملة الانتخابية، شيءٌ أعاد ذكريات سنواتي في إيران، الهروب الى السويد وهويتي كسويدي-إيراني. الوقت الذي سبق انتخابات عام ٢٠٠٩ مثّل بالنسبة كمحطةٍ فاصلة على الصعيد الشخصي. لقد قررنا انا و تريزا ان نتزوج. عندما كنت ادرس القانون انضمت هي الى دراسة مهنة الشرطة وبدأت العمل في جنوب ستوكهولم. في صيف ذلك العام دُعيت عائلتينا واصدقاؤنا الى حفل الزفاف.
ربما كانت تلك بمثابةِ الخطوة الحاسمة التي وجدتُ نفس أزائها، أو ربما كانت الأمر الذي ببساطةٍ نما مع مرور الوقت لينبثق في الذاكرة. في شتاء ٢٠٠٨ و٢٠٠٩ كنت قد اهتديت الى ذلك: لقد عُدتُ ادراجي، أعدتُ تنظيم الصور، تحدّثتُ الى والدي عن ذكرياتهم بخصوص الأحداث، الأماكن والأشخاص الذين مرّوا في حياتنا. خلال ذلك كنت قد مارستُ مهنة المدوّن القانوني في اقليم يڤلة، وسكنتُ على مدى اسابيع لدى والديّ. في الامسيات التي تعقب انتهاء عملي في المحكمة وحيث يكون لدي متّسعٌ من الوقت للتحدّثِ عن مسقط رأسي القديم.
بحثي كان يتمحور حول الهوية. من كنتُ ومن اودُّ ان اكون. خلال فترة الطفولة تعمّق لدي وبقوة انتمائي لإيران بكل ما يعنيه ذلك كإيراني خلال الحرب من أعباء إضافية في أعوام الثمانينيات. كان الخوف من الاعتقال على يد شرطة الاخلاق أمراً يومياً كصوت الطائرات الحربية العراقية التي تحلّق فوق طهران. كما هو حال الكثيرين من الايرانيين، كان والداي ناقمين بعمق على النظام الحاكم. كان والداي متحضرين و تقدميين في القضايا السياسية، وهذا ما انغرس في داخلي بالطبع. ولكن المجتمع الذي اسسه الملالي عام ١٩٨٠ هو الوحيد الذي اعرفه قبل الهروب من البلاد ووصولنا الى السويد و يڤلة. لقد كان عهدا من الضياع ومتبايناً الى درجةٍ قصوى مقارنةً بالمجتمع الجديد الذي وجدتُ نفسي فيه. لقد وصلنا السويد، ولكن إ قتضى مرور وقتٍ طويل لكي يمسي ذلك امراً مؤكداً. في صيف عام ١٩٩٠ جاءنا الرفض الأول على طلب اللجوء الذي تقدمنا به الى دائرة الهجرة. ثم إستئنفنا قرار الرفض مراتٍ عدة الى الحد الذي لم يعد بعده ممكناً. في الوقت الراهن تعالج طلبات اللجوء في هذه الحالات بإرسالها الى محكمة الهجرة وهذا التعديل في معالجة هذا النوع من القضايا ساهمت انا شخصياٍ في وقت لاحق بتحقيقه عندما كنت رئيساً لاتحاد شبيبة الحزب الاشتراكي الديمقراطي SSU. في ذلك الوقت كانت الحكومة هي من تملك الكلمة الاخيرة الخاصة بذلك. في اليوم السابق لذلك اليوم الانتخابي المحموم من حزيران ٢٠٠٩ كنت قد، وعلى سبيل الفضول، سحب طلبنا للحصول على حق الاقامة في السويد.
لقد عبّئت عدة استمارات وارسلتها بالبريد وبعد عدة ايام حطّ ظرف ابيض كبير في صندوق بريد بيتنا في ناكّا في ستوكهولم. فتحت الظرف وقرأتُ الرسالة. تداعت الذكريات مجدداً عن الوحدة والخوف حين امضينا عدّةَ أشهرٍ متخفّين بدون وثائق إقامة رسمية. كنت فتىً في الثانية عشر من عمري مسكوناً بعدم الأمان ولا املكُ ايَّ افقٍ للمستقبل.
القرار الاخير بخصوص رفض منحنا حق الاقامة اتخذته الحكومة في ٢٣ آذار ١٩٩١. كان وثيقةً رسميةً صارمة. استعرض القرار في مقدمته موقف دائرة الهجرة من الطلب المقدّم من والدتي القاضي بمنحنا حق الاقامة وعليه قررت الحكومة بشكلٍ قصيرٍ ومختصر ” تقرر الحكومة التي تشاطر دائرة الهجرة رأيها رفض اعتراض المدعية” وفي ذيل الرسالة توقيع الوزيرة المختصة، وزيرة الهجرة: منى سالين.
تجاوز القطار مدينة يڤلة. ومن شباك القطار شاهدتُ واحدة من اوائل الشقق التي سكنّا فيها عند وصولنا للسويد، وتداعت في مخيلتي بالصدفة الحالة التي عليها الشوارع. بالكاد قبل عشرين عاماً وقّعت منى سالين برفض طلب الاستئناف الذي تقدمت به والدتي لدائرة الهجرة الذي عنا لي ولوالدتي تغييرا جوهرياً في حياتنا.
وفي هذا اليوم ومن معترك الحملة الانتخابية نقف سوية انا ومنى سالين على منصة الخطابة انا باعتباري مرشحاً للبرلمان الاوربي وهي كرئيسة للحزب. لو كان قرار ١٩٩١ قد جرى تنفيذه لانهارت حياتنا مرةً اخرى. كنتُ سأعيش شبابي في بلدٍ آخر غير السويد. وكنت سأدرس ربما مجالاً آخر. ولم يكن من الاكيد إني سأنخرط في السياسة. ولم اكن لألتقي بزوجتي، ولم أكن لأصبح أباً لأولادنا، ولم أكن لأصبحَ وزيراً في الحكومة السويدية. كان من الممكن ان تصبح هذه الحكاية واحدةً اخرى. كنا على شفى مغادرة السويد.
شجرة ورقية
ذاكرتي الأولى؟ لستُ متيقّناً منها كغالبية الناس. فبمرور الوقت تضمحل صور الطفولة، تُمحى و تتشظّى، الاحداث، الاصوات، الروائح وكذلك الاشخاص الذين مرّوا بحياتنا في مقتبل العمر حيث يستعصي وضع الاشخاص و الاحداث فيما بعد في الزمان و المكان الحقيقيين.
——————————————————————————————————————————————
Ardalan Shekarabi
Korsvägar
I samarbete med Atlas bokförlagschef Jesper Bengtsson
ISBN: 978-91-7445-036-1
Som ljudbok kommer att vara tillgänglig från och med 27 december 2022 på Storytel, Bookbeat och Nextory.