مقال رأي: التقيتها في محل لبيع النباتات الطبيعة والزهور. امرأة سويدية في نهاية عقدها السادس او بداية السابع، او هكذا بدت لي، بالتأكيد لم أفكر في سؤالها عن عمرها ليس فقط لأن كون ذلك امر غير مستحب فعله في السويد، بل لان العمر لا يعني الكثير ما دام الانسان قادراً على التواصل مع الاخرين.
كان الطقس مشمساً على غير العادة وبشائر الربيع بدت واضحة وفي مثل هذه الأوقات يتوافد محبو الزراعة بشكل ملحوظ على مشاتل النباتات، حيث يتهيؤون للزراعة بعد طول انتظار وهناك من يذهب ابعد من ذلك من خلال مبادلتك ابتسامة دافئة.
رأيتها واقفة بالقرب من نبات الظل الطبيعية الصغيرة الحجم، ولسبب لا أعرفه وجدت نفسي أتوجه اليها بالسؤال عن كيفية الاهتمام بمثل هذا النوع من النباتات، اجابتني بهدوء وابتسامة كاشفة عن خبرة واسعة في الزراعة، حيث ذكرت لي فيما بعد ان لها مزرعة كبيرة وأنها تعيش في أطراف المدينة ولديها أصناف مختلفة من النباتات والازهار التي تزرعها وتهتم بها.
لم يكن الحديث عادي مع هذه السيدة اللطيفة، ما شجعني على سؤالها السماح لي بمرافقتها اثناء تجوالها في المشتل من اجل شراء بذور الطماطم ومعرفة بعض أصناف الزهور وهكذا كان.
تحدثت معها عن انني اريد صنع فرن حجري للخبز، ويظهر ان الفكرة اعجبتها فبادرت بسؤالي عن بلدي، قلت لها انا من العراق، فردت علي، قائلة: “ان اول مكتبة عرفها التاريخ كانت في العراق، لكن للأسف لا يعرف كثيرون ذلك”، أراحتني اجابتها وأدركت حينها اننا امرأتان تنحدران من الفهم الإنساني نفسه للحياة.
إطلاع واسع
الحديث مع السيدة السويدية كان شيقاً بالنسبة لي، فالسويديون بالعادة مشغولون بحياتهم وليس لدى الكثير منهم الوقت او حتى الرغبة في محادثة الاخرين، يخططون ليومهم كما لحياتهم، اوقاتهم محسوبة ولا يريدون من يضايقهم في ذلك، لذلك تراهم مقلين في الكلام خاصة مع الغرباء.
اثناء سيرنا معنا توقفنا عند بعض أنواع الزهور البصلية وشرحت كيفية الاهتمام ببعض أنواعها. توقفنا عند قاطع البذور، حيث تتراص أنواع مختلفة جداً من بذور النباتات والزهور، لكن السيدة كانت تعرف ما الذي تريده، مدت يدها واخذت ما تحتاج اليه من بذور الطماطم الكرزية.
تحدثنا مطولاً عن أوراق الريحان وزهور شجرة البرتقال العبقتين بروائحهما الزكية ولا اعرف كيف وصلنا في حديثنا الى الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا. لم أتوقع ان تكون ملمة بمثل هذه التفاصيل، فالنساء في مثل هذا السن ببلدي يكونون قد ودعوا الحياة عملياً، يتحركون بالكاد في المنزل وصرتهم الصغيرة من الادوية لا تفارقهم، هم ينتظرون نهايتهم ببساطة.
وقبل ان اطرح سؤالي، أكدت لها ان ضد الحرب أياً كانت الدوافع والأسباب، فليس من طرف رابح فيها، لكني في نفس الوقت ابديت استغرابي عن ازدواجية المواقف التي تتعمدها أمريكا وأوروبا في التعامل مع الأحداث، فقبل ان يعم شبح الحرب في أوكرانيا، كان في العراق وسوريا وليبيا وأفغانستان وغيرها، لكنها لم تلق كل هذا الاهتمام، مئات الألوف قتلوا والملايين هجروا ولا زالت البلدان تحت رحمة الفقر والتشرد ونقص التعليم والصحة، بلدان تحتاج الى عقود من الزمن ليتم اصلاح الشأن فيها، أليسنا كلنا بشر من نفس الطينة؟
اجابتني السيدة، قائلة، ان الامر لم يكن كذلك وانهم أبدوا اهتماما ايضاً، لكنه وبسبب البعد الجغرافي لم تعرف شعوب العالم بذلك، ثم انتقدت سياسة حكومة بلدها على سياسة الهجرة التي كان من المفترض ان تكون أكثر ادراكاً وبالشكل الذي تساعد الوافدين الجدد على الاندماج في المجتمع، وعلقت بحركة على فمها وكأنها تشد سحابة لتغلق شفتيها، في إشارة منها الى ان الشعب السويدي شعب صامت. احترمت رأيها.
انقضت ساعتان ونحن معاً رغم انني كنت قد عقدت العزم على عدم البقاء لأكثر من نصف ساعة في مشتل الزهور. وودت لو نستمر في حديثنا لذلك رحبت بها في منزلي، وأبدت هي الأخرى سعادة في ذلك لكننا وبعد ان وصلنا الى صندوق الدفع، نسيت ان اعطيها رقم هاتفي، ربما بسبب الأفكار المتزاحمة التي خلفها لقاءنا معاً. ضيعتها في تلك المناسبة.
قد ألتقيها يوماً اخر في احدى متاجر الزهور التي احظى بزيارتها في فصل الصيف.
لينا سياوش
مقالات الرأي تعبر عن كتابها وليس بالضرورة عن SWED 24