مقال رأي: في السويد، تتلون الفصول كما تتلون السماء في أوقات الشفق. لكل فصل لوحته الخاصة التي تُعبّر عن حضوره قبل أن يصل بكثير. تبدأ الفصول في رسم ملامحها عبر ألوان الطبيعة التي تتبدل في مشهدية سحرية، ولكن الغريب أن روائحها تأتي خافتة، أشبه بنسمةٍ عابرة تلامس الأطراف دون أن تغمر الحواس بالكامل.
في كثير من بقاع العالم، يكون المطر أول بشير لقدوم الفصول، خاصةً الخريف. تلك الرائحة الترابية التي تنبثق من الأرض عندما تتلاقى القطرات الأولى مع التربة الجافة، تحمل معها عبق الذكريات الدافئة.
هي رائحة تأخذك بعيدًا إلى لحظات ربما نسيتها، ولكنها تعود لتبعث فيك دفئًا غريبًا، كأنها تفتح بابًا إلى عالم من المشاعر المخفية. هذا الدفء، الذي لا يمكن وصفه بدقة، يشبه طعم تينة بنفسجية ناضجة؛ حلاوتها تجمع بين الحاضر والماضي في لقمة واحدة.
في الأماكن التي تُعاني من الجفاف، يصبح للمطر قصةً تُروى بلغة العشق والحنين. عندما تنزل أولى قطراته على الأرض العطشى، ينبعث من التراب عبقٌ فريد لا يُشبهه شيء، كأن الطبيعة تحتفل بعودتها إلى الحياة بعد طول غياب. هذا العبق لا يحمل معه فقط رائحة الأرض المبللة، بل يفتح أبواب الذاكرة، ليأخذنا في رحلة إلى زمن الطفولة، حيث كنا نتراكض تحت ضوء مصابيح الشارع الخافتة، نتراقص مع قطرات المطر وكأنها نغمات في سيمفونية الطبيعة.
في تلك اللحظات، تبدو الطبيعة عادلة في توزيع جمالها على الجميع، وتعطي كل روح ما تحتاجه من دفء وراحة. فهي تعطي بسخاء كلما استطاعت، وتمنحنا جمالها بطريقة لا يمكن لشيء آخر أن يُضاهيها.
للمطر لغةٌ خاصة، يفهمها كل من عاش في تلك البيئات القاحلة، حيث تحمل الرياح رائحة المطر قبل أن يصل، تنبئ بقدومه، وتملأ القلوب بغبطة مفاجئة لا يُعرف سببها.
رائحة المطر، ليست مجرد حاسة من حواسنا، بل هي حكاية مشاعر مختلطة تجمع بين الفرح والحزن، بين الشوق والحنين. كلما لامست أُنوفنا، نتذكر أيام الطفولة البعيدة، حين كنا نركض تحت السماء المفتوحة، ونشعر بأن كل قطرة من المطر تزيدنا عشقاً بالحياة. هي رائحة تحملنا إلى عوالم بعيدة، حيث لا يزال لكل شيء نكهة خاصة، وحيث يجتمع عبق الطبيعة مع ذكريات ماضي لن يعود، لكنه كفيل بأن يخلق لنا لحظات من السلام الداخلي.
ليس لفصول السنة رائحة في السويد. بل تكون معرض غني بألوان مجدولة بتناغم مع بعضها البعض. تتحكم الألوان في زمام الفصول أكثر من الروائح. الخريف هنا يتلون بكل درجات الأحمر والأصفر، وكأن الأشجار تحتفل برحيل الصيف القصير قبل أن تنفض أوراقها وتسلمها للأرض. ومع اقتراب الشتاء، يتراجع اللون تدريجيًا حتى تسيطر درجات الأبيض والرمادي على المشهد.
الألوان هذه، رغم جمالها، لا تصحبها نفس الروائح العميقة التي نرتبط بها في أماكن أخرى. فالأرض هنا لا تبث ذاك العبق الترابي بقدر ما تكتفي بلمسات من البرد القارس.
للخريف بالذات معنى خاص، ففيما هو فصل التجدد والحياة في المناطق الجافة، فإنه في السويد بداية لفترة من الإنعزال الداخلي، وتمهيداً لفترات طويلة من الظلام والبرد.
وفي الربيع، رغم عودة الحياة والطبيعة إلى التفتح، تظل الروائح خفيفة، هامسة. كأنها لا تجرؤ على مزاحمة الألوان التي تندفع بقوة. كل زهرة تُشهر بألوانها في مشهدٍ احتفالي، لكن عطرها يبقى محصورًا في دائرة ضيقة أو تكتفي بألوانها البراقة من غير رائحة، كأنما هو وعد سرّي بأنها لن تفوح الا لمن تريد.
الفصول في السويد هي احتفال بالعين قبل الأنف. تهيمن الألوان على الروائح، تاركة لنا التمتع بتلك اللوحات الطبيعية المرسومة بدقة إلهية، بينما تظل الروائح مجرد همسات، تذكّرنا بأن في هذا العالم أبعادًا حسية تتجاوز الرؤية، وإن لم تكن حاضرة بقوة هنا.
لينا سياوش
مقالات الرأي تعبر عن رأي كتابها وليس بالضرورة عن SWED 24