مقالات الرأي تُعبر عن رأي كُتابها وليس بالضرورة عن SWED 24
مقال رأي: كيف يمكن للأمور أن تتطور بمثل هذا السوء؟ أصبح التواجد وسط الناس يجلب الكآبة ويمنح شعوراً بعدم الأمان، فالتفاهة أصبحت تحيط بنا من كل جهة، ولا يكاد المرء يرفع رأسه قليلاً حتى يرى أحد التافهين وهو يهتف بما تُملي عليه تفاهته وكأنه أكتشف ما ينقذ البشرية من الخراب، غير مدرك ربما انه جزء من هذه التفاهة.
صار العالم في وقتنا هذا قائماً على نظام التفاهة، على حد قول الكاتب الكندي آلان دونو في كتابه “نظام التفاهة”. لم يعد للفكر والمنطق والعقل ركائز في حياتنا اليومية. تحّول العالم الى مصنع كبير لإنتاج أدمغة مبرمجة قائمة على مسلك واحد ونظرة واحدة للأمور، أصبح الشخص الذي يحمل أفكاراً مختلفة يُعد من مخلفات القرون الوسطى.
سيطرت التفاهة بكل أشكالها، الفكرية والاجتماعية والثقافية والسياسية والاستهلاكية والاقتصادية وضمن أعلى المستويات على تفكير الناس، بل أصبحت نظاماً كاملاً يستند على سطحية العقول وسذاجة الأفكار والتوسع في مفهوم المجتمع الاستهلاكي القائم على الترويج والتسويق، بغض النظر عن محتوى تلك الإعلانات البائسة في معظمها.
الكل يسير بوتيرة متسارعة من أجل اللحاق بالركب، انه سباق التفاهة والفائز هو من يقدم أغنى محتوى تفاهة يأسر أكبر عدد من القطيع البشري ويستميله اليه وهنا يتحقق الهدف وتبدء مسيرة الثراء والمزاحمة على الصف الأول في ماراثون التفاهة، وزحمة الصف الأول تُربك بالفعل المتطلعين إليه.
هل كان العالم قبل أن تتطور تكنولوجيا الاتصالات بمثل هذه التفاهة الذي هو فيه الآن، أم أن وسائل التواصل الاجتماعي، وغيرها الكثير مما تنتجه آلة التطور التكنولوجي، فرزت كموشور زجاجي المستوى الذي وصل اليه الإنسان في تفكيره.
التفنن في صنع التفاهة
أمر مرعب أن نكون محاطين بالتافهين الذين يعتقدون ان المال والوجاهة والمركز الاجتماعي أو التفوه بالحماقات يمكن ان يصنع منهم أناس آخرين غير ما هم عليه. من السهل دائماً التلّون بألوان وأشكال مختلفة ظاهرياً، كما تفعل الحرباء بجلدها، لكن الحرباء المسكينة تفعل ذلك انقاذاً لحياتها من هجوم معادي، فيما يفعل الإنسان ذلك لتأكيد وجوده بطريقة رثة أو لشراء ماء وجه مفقود، لا يُنقذه مال او منصب.
صار العالم متفنناً في صناعة التافهة في وقتنا الراهن، وغدت تجارة مربحة تعتمد أرباحها على المجتمع الاستهلاكي الفارغ الذي تحول فيه الانسان الى أداة تنفيذية يقتصر دوره على تأدية ما هو مطلوب منه فقط من أجل جمع أكبر قدر من المال، ليس للعيش به ومواصلة الحياة بل لتجميع ما تنتجه ماكينات التفاهة المختلفة من سلع تعتاش على كد الانسان وتسلب منه تعبه وشقاءه في ساعات طويلة من العمل، وكل ذلك من اجل تحقيق مستوى اجتماعي، أصبح للأسف مقياس الكثيرين في تقييمهم للأخرين ووضعهم ضمن جمهور الصف الأول في عصر التفاهة.
لم يعد الطريق نحو الغنى وكسب المال يتطلب شهادات واجتهادات وخبرات وعمل دؤوب وقبل كل شيء الصبر والتحمل، بل أصبح ذلك يعتمد على ما يمتلكه الانسان من قدرة على صناعة محتوى تافه يتناسب ومقاسات التوافه التي تلقى رواجاً كبيراً في وقتنا هذا وترتيب ذلك بالشكل الذي يلبي ذائقة لا يٌحسد من أبتلى بها.
في وقت ما وفي غفلة من الزمن سيطر التافهون والسطحيون على زمام الأمور، وأصبحوا هم من يديرون الدفة ويبسطون زعامتهم على المشهد، مثل هؤلاء أصبحوا مثالاً للكثير الكثير من الأشخاص، الذين يقتدون بهم ويسلكون طريقهم، فنحو أية هاوية نحن سائرون؟
تنبأ الكاتب والراهب الروماني قسطنطين فيرجيل جورجيو بما يحدث في وقتنا هذا في روايته الرائعة “الساعة الخامسة والعشرون”، التي تتحدث عن انهيار الإنسانية بأسلوب دقيق جداً وكأنه قرأ بالفعل ما يحدث رغم ان إصداره للرواية كان في أواخر اربعينيات القرن الماضي.
يقول جورجيو في روايته، إن” الإنسان سيصبح مغلولاً خلال سنين طويلة في مجتمع تقني، لكنه لن يموت في الأغلال. فالمجتمع التقني يستطيع ابتداع رفاهية، لكنه لا يستطيع خلق الفكر، ومن دون الفكر لا توجد عبقرية”.