((في إحدى السنوات ثبُتَ شهر رمضان ظهر أحد أيام الصيف، كنتُ حينها في الثامنة من عمري)) .. وتابعتْ تحكي لنا: ((كنّا في يبرود وكان والدي واقفًا يدخّن سيكارته على الشرفة المطلّة على الجامع قبالة بيتنا، عندما رأيتُ المؤذِّن يطلّ من شرفة المئذنة ويقول له: أبو صولِح زتّ السيكورة من إيدِك (أبو صالح ارم السيكارة من يدك).
ثم رفع يده ووضعها على أذنه وبدأ التكبير وأعلن ثبوت الشهرأطفأ جدّكم السيكارة ودخل مسرعًا فتمضمض ونوى الصيام)).كنّا ننصتُ لها بشغف وهي تقصّ علينا، أنا وأخوتي، في أمسيات رمضان حكاياتها الممتعة، التي سأنقلها لكم سردًا: +كان والدها ميسور الحال يعمل في الزراعة والتجارة بين سورية ولبنان وفلسطين، وكانت هي بِكر أولاده، فدلّلها كثيرًا، وضعها في البدء في (الكُتّاب)، ثم لاحقًا في مدرسة الراهبات، وهناك تعلّمت اللغة الفرنسية مع باقي العلوم.
وكذلك العزف على البيانو، وتعرّفت على الكثير من بنات جيلها واستمرّت صداقتهم حتى آخر حياتها+وحكت لنا عن حيفا التي عاشت فيها سنتين في أواخر الثلاثينيات، وعن سفرها لهناك مع والديها بالبوسطة ثم بالقطار، وعن جيرانها الفلسطينيين وجارتها اليهودية التي كانت تتردد عليهموكيف كانت تحبّها كثيرًا فعلّمتها مبادئ شغل الصوف بسنّارتين، وأهدتها قميصًا من الحرير وكيف كانت تطلب من والدتها أن تساعدها أيام السبت في بعض الأعمال المنزلية ثم عن هروبهم من حيفا في حنطور بعد اشتداد عمليات العصابات اليهودية ضد السكّان العرب، وكيف هرب سائق الحنطور من حاجز طيّار وأدخلهم في حرش كبير أمضوا الليل به مرعوبين.
وكانت حكايتها في إحدى الأمسيات عن انتخابات المجلس النيابي في أواخر الأربعينيات وكيف خاضها والدي عن يبرود ومنطقة القلمون مع رجالات المنطقة آنذاك: صالح عقيل وإبراهيم طيفور وأمين النفوري وعبد الحليم قدور ومحمود دياب وعبد العليم غزال.. +وحكت عن زيارة الرئيس شكري القوتلي إلى يبرود لافتتاح المشفى الذي تبرّع به المهاجرون (اليباردة) في الأرجنتين وعلى رأسهم موسى كريّموكيف توقّف الرئيس القوتلي قبل أن يُكمل سيره إلى المشفى، أمام منزل جدي مفتي القلمون ونزل ليسلّم عليه، وكان زميل دراسته في دمشق، وكان معهم الشيخ أمين كفتارو+وعن طبيب الأطفال المشهور في دمشق جمال ربيع الذي كان يعالجنا، وهو من الديانة الموسوية، وكان (فهيم وألبه من الله) كما حكتْ لنا+ومن طرائف حكاياتها تلك القصيدة الزجلية التي رافقتْ دخول الكهرباء إلى يبرود عن طريق شركة خاصة لمستثمر دمشقي في أوائل الخمسينيات:الكهربا والكهارب و(فلان) أبو الشوارب و (فلانة) عبتحارب بدها تفوّت كهرباثم حكاية ذلك السّمِج (المتفزلك) مع إحدى قريباتنا بعد دخول الهاتف إلى يبرود في مطلع الخمسينيات أيضًا تم تمديد خط هاتف إلى منزل جدي المفتي وتم تركيب الجهاز اليدوي (التلفون كما كان الجميع يعرفونه) في الصالون الخارجي في طاقة كانت تُستخدم للفانوس بين غرفة المفتي والصالون.
وصدف أنْ دخل ذلك السمج مباشرة إلى الصالون واتّجه للطاقة يريد أن يستعمل (التلفون) صادفته قريبتنا فصرختْ غاضبة: شو بدِّكْ؟ -بدّي أستعمل الهيتف (الهاتف) -هيتف؟؟؟ هتفك ضريب .. شو هيدا الهيتف؟؟؟نادى عليها جدي من الداخل: يا بنتي بدّو يحكي بالتلفونانتشى صديقنا منتصرًا ورفع صوته مخاطبًا المفتي من الباب:الله يمد بعمرك يا مفتي أفندي ويديمك .. لا تواخذني فكّرتك في قيلولة، وإلّا ما كنت حكيت مع هيدي الأميّة الجيهلة (الجاهلة) أُسْقِطَ في يد قريبتنا وذهبتْ وهي تبربر: … لولا كرومة المفتي بس .. أُوُل هيتف أُوُلما بتعرف تئول تلفون
… وإلى اللقاء.
معن حيدر – السويد