مقالات الرأي تُعبر عن رأي أصحابها وليس عن SWED 24
مقال رأي: غزو روسيا لجورجيا في العصر الحديث كان بمثابة المقدمة المنطقية لكل ماجرى بعد ذلك من غزو. بدأً من القرن التاسع عشر فقدت مملكة جورجيا استقلالها وأُلحقت بالامبراطورية الروسية، ثم ضمّ الجيش الاحمر جورجيا الى السيادة السوفيتية تماماً عام ١٩٢٢ لتنجح في العصر الراهن باستعادة سيادتها عام ١٩٩١.
الفسيفساء القومي شديد التعقيد
تمكنت الدولة السوفيتية وبالذات أبان هيمنة ستالين على مقاليد الحكم من تنفيذ سياسة الصهر القومي لشعوب وقوميات وأقليات الاقاليم التي تم إخضاعها بقوة السلاح بادعاء ان القومية الكبيرة (الروسية) هي خيمة الوطن الكبير (السوفيتي). لكن حين تضافرت العناصر الموضوعية لتفكك الاتحاد السوفيتي في بداية تسعينات القرن الماضي تشظى (الوطن السوفيتي الكبير) الى عناصره الاولية التي افرزت سلسلة من الدول المستقلة اولا ثم انضمت غالبيتها لاحقاً الى الاتحاد الاوربي و بعدها سعت بعضها الى طلب الانضمام لحلف شمال الاطلسي (الناتو).
الدول التي انتزعت استقلالها عن الاتحاد السوفيتي أدركت مغزى التحالف مع المعسكر الغربي لضمان الحماية اللازمة لتنمية اقتصاداتها بعيداً عن اشباح الماضي ودروسه المقيتة.
لم تقتصر عمليات استخلاص الدروس على الدول التي كانت خاضعة للهيمنة السوفيتية وإنما امتد ذلك الى بلدٍ كالسويد الذي عانى من الهزيمة النكراء على يد جيوش الامبراطورية الروسية في معركة بولتافا ( الواقعة في اوكرانيا الحالية) في اتون الصراع الدامي الذي امتد ما بين ١٩٠٨ -١٩٠٩.
ما اشبه اليوم بالأمس
اوكرانيا وعلى خطى جورجيا في الانعتاق القومي والوطني. اوجه التشابه بين المسارين. روسيا تعترف باستقلال مقاطعتين في جورجيا ( اوستيتيا الجنوبية و أبخازيا)، و تفعل ذات الشيء باعترافها بسيادة مقاطعتي ( دونيتسك و لوهانسك) اي ما يسمى إقليم الدونباس. وفي كلتا الحالتين يكون الترابط الجغرافي واللغوي عنوانا لما آلت اليه الامور فالترابط الجغرافي يغري بتمدد روسيا جنوباً وجنوب غرب لفرض سيطرة مطلقة على البحر الاسود. وسرعان ما استبدل الاتحاد السوفيتي سياسة التسامح الثقافي والقومي للجمهوريات التي ضمها للاتحاد الى سياسة الصهر القومي منذ ثلاثينيات القرن الماضي لتصبح اللغة والثقافة الروسية هي المعيار الوطني لشعوب الاتحاد السوفيتي.
كما ان حلم القياصرة والقادة الروس منذ تأسيس الامبراطورية عام ١٧٢١ في عهد بطرس الاول، ظل يرنوا جنوبا الى المياه الدافئة في الخليج العربي والبحر الابيض المتوسط. الا ان التاريخ لم يمهل القياصرة ولا الزعماء من بعدهم لتحقيق هذا الهدف الحيوي للأمن القومي الروسي على الرغم من الحروب والتكتلات التي هدفت الى تفكيك الامبراطورية العثمانية وتقسيمها بين الحلفاء، الا ان الروس لم يتمكنوا من وضع موطئ قدم لهم في المياه الدافئة الا في العقد الاخير حين سمحت ظروف الحرب الاهلية في سوريا لروسيا بالتمدد الى مينائي طرطوس واللاذقية وقاعدة حميميم العسكرية في إطار اتفاقية تعاون عسكري متبادل المنفعة.
وعلى ذات النهج تسير خطط روسيا المعلنة في التمدد الافريقي عبر مشاريع اقتصادية طويلة المدى. وثمة نسقٍ لا يقلُّ اهميةً عن هذا في السياق المتصل بالتوجه الحثيث للمياه الدافئة عن طريق التمدد في القرن الافريقي وتحديدا في جيبوتي والسودان. وما يعبر بوضوح عن نوايا التغلغل الروسي في افريقيا في العقدين الاخيرين انه جاء بوجهٍ اقتصادي يرمي لتعزيز المنفعة المشترك على عكس الخط الأيديولوجي أبان العد السوفيتي الذي روّج لسياسة التضامن مع الشعور و دعم حركات التحرر.
تقوم العقيدة الاستراتيجية للروس على خلق و تمهيد الظروف المواتية لإرساء مقومات الامبراطورية الروسية الجديدة على ما عُرف بنظرية ( دوكن، الكسندر دوكن) القائلة بأن الكيان الامبراطوري يجب ان يُقام دفعة واحدة. غير ان هذه النظرية لم تجد في الواقع مستلزمات تحققها ( دفعةً واحدةً) وإن ظلت موضوعة على ( طاولة الرمل) للقيادة الاستراتيجية للإمبراطورية الناهضة. وما حرب روسيا على جورجيا عام ٢٠٠٨ ثم ضم شبه جزيرة القرم عام ٢٠١٤ وغزو اوكرانيا عام ٢٠٢٢ الا سلسلة متصلة في هذا السياق لكي تتوسع الامبراطورية الناهضة متجهةً جنوباً لتحكم سيطرتها على البحر الاسود ثم لتندفع جنوبا صوب المياه الدافئة في الخليج العربي والبحر الابيض المتوسط.
يمكن تفسير الجنوح العنيف لصناع القرار في الكرملين على النحو الذي شهدناه في عدم الالتفات للقانون الدولي الذي يجرّم تغيير خارطة الدول ذات السيادة بالقوة هو الرصيد الهائل من الشعور بالذل و الغبن نتيجة انهيار الاتحاد السوفيتي و نجاح حلف الناتو من الحلول التدريجي في حياة الدول التي انسلخت عن الاتحاد السوفيتي. شعور الغبن والذل هذين يذكراننا بما ترسب في وجدان غالبية الشعب الالماني بعد الهزيمة في الحرب العالمية الاولى والشروط المجحفة و المذلة التي فرضت على المانيا. تلك المشاعر التي إستغلها الحزب الاشتراكي القومي الالماني بقيادة هتلر لتعبئة اوسع قطاعات الشعب وراءه.
لماذا احتلال وضم شبه جزيرة القرم الى روسيا عام ١٩١٤؟
تزداد اهمية شبه جزيرة القرم لإستراتيجية روسيا الامبراطورية الناهضة الى انها تحتضن قاعدة اسطول البحر الاسود البحرية في ميناء سيباستوبول الاستراتيجي الى جانب قاعدة بيلبك الجوية و قاعدة ساكي الجوية الى جانب قاعدة سيميرپول الجوية و قاعدة پيرڤالنو البحرية المواجه لاوكرانيا من الجنوب.
تاريخيا ظلَّ ارتباط القرم بروسيا إداريا حتى عام ١٩٥٤ حين نقلت الحكومة المركزية في موسكو عائدية القرم لاوكرانيا التي كانت آنذاك جمهورية اشتراكية في إطار الاتحاد السوفيتي. لقد بيّن التاريخ لنا ان تطلعات الزعماء نحو التمدد خارج اقاليمهم تصدّر سياسات و تحالفات العديد من دول العالم متذرّعين بالوازع الديني حيناً و بمتطلبات الامن القومي لبلدانهم أو انتصارا لطموحات قومية حيناّ آخر.
الغزو العراقي للكويت – غزو صدام للكويت نموذجٌ على التخبط في دراسة الآثار التي يمكن ان تنجم عن تغيير خرائط الدول بالقوة وأثر ذلك على سلاسة العلاقات الدولية وما ينشب عنها من ازمات تُطيحُ بسيادة دول المنطقة وتخلق بؤراً جديدةً للتوتر.
دعوات إعادة الخلافة، نموذجٌ اردوغان للقفز فوق معطيات العصر وتوازناته مستخدماً في سياق التحضير له ركاماً من الطروحات الاصولية اللاواقعية وتجنيد الحركات السلفية ممثلة بحركة الاخوان المسلمين ذات الامتدادات العالمية للتبشير بعودة الخلافة الاسلامية باللباس التركي ومد أذرعه التنظيمية عبر تنظيمات مثل الدولة الاسلامية في العراق و بلاد الشام.
الحنين لأمجاد الاندلس من البوابة المغاربية في محاولة عقيمة للي عنق التاريخ وإرجاع عقارب الساعة الى قرونٍ مضت. خارطة الصراعات الدولية اعلاه من شأن المضي فيها وتجاهل مخاطرها ان يضع العالم امام كوارث إنسانية في ضوء اعداد الضحايا ال ٦٠ مليون الذين سقطوا في أتون الحرب العالمية الثانية. هذا الرقم ممكن ان يتضاعف في سياق اي حرب نووية قادمة وترسانات اسلحة الدمار الشامل الجاهزة للاستخدام.
عباس الجنابي/ اوبسالا الجمعة ٢٤ فبراير ٢٠٢٣
المصادر
https://www.bbc.com/arabic/world-39568324
https://ar.wikipedia.org/wiki/جورجيا
http://www.moqatel.com/openshare/Behoth/Siasia2/GeorgRuss/map08.gif_cvt.htm