سمعتُ عنه كثيراً قبل أن ألتقيه عام 2004، في مهرجان الأغنية في حلب، ثم بنفس العام في مكتبي في هيئة الإذاعة والتلفزيون. وجدته ودوداً لطيفاً، دمث الأخلاق، يتكلّم بهدوء الباحث العارف المتمكّن.
حدّثني عن مشروعه في توثيق وإحياء الموسيقى السريانية السورية، وعرضتُ عليه تعاون هيئة الإذاعة والتلفزيون معه فرحّب بحرارة. إلا أنه في مطلع 2005، انشلغنا بتداعيات اغتيال الشهيد رفيق الحريري، وفي ختامها أُنهيَ تكليفي كمدير عام، فلم أفي بوعدي له.
هو الموسيقار الملفونو نوري اسكندر الذي كان له الفضل في حفظ وتطوير وإحياء التراث الموسيقي السرياني والمشرقي، ويعدّ أهم موسيقي سوري في العقود الأخيرة. يفضّل لقب: الملفونو الموسيقي، على لقب: الموسيقار، كما ذكر في أحد اللقاءات التلفزيونية.
يعتبر نفسه امتداداً وتكملةً لِمَا قام به الآباء المؤلفون الموسيقيون السريان. من خلال دراساته وأبحاثه، ولكن لا يضع نفسه بمستوى هؤلاء العظماء.
تحدّث عن الموسيقى المشرقية في لقاء آخر، فقال: الألحان السريانية ثمانية كانت تسمّى أكاديا، هي : “قولو قدمويو، قولو ترايونو، قولو تلتويو” .. وهكذا.
قولو معناها الصوت، ومدلولها اللحن. اللحن الأول، اللحن الثاني، اللحن الثالث… وهكذا.
جاءت امتداداً للموسيقى التي سبقتها، وكانت مُنتشرة عند اليونان والسريان ما قبل البيزنطيين (ويقصد الآراميين).
لم يُعرَف أصلها. لكن وجدوا في (أور) وفي أماكن أخرى، رُقماً عليها نصٌّ واحدٌ وثمانية ألحان مكتوبة وراءه.
أي أن نظام الألحان الثمانية كان موجوداً في بلاد ما بين النهرين قبل اليونان، ثم أخذها اليونان ثم أكملها السريان واستعملوها.
ما زالت هذه الألحان تُستعمَل حتى الآن ضمن المقامات الشرقية المعروفة. بعدما استولى الفرس على الإمبراطورية الآشورية آخر مرة بعد سنة 600، خسر الشعب الآرامي كل شيء، الأرض والمجتمع والدولة. ومن هنا جاء اللحن السابع، لحنٌ حزين جداً، ويُستخدَم في مراسِم الشهداء وفي الجمعة العظيمة.
الموسيقى الشعبية السريانية القديمة أثّرتْ على النصّ الموسيقي السرياني المُعاصِر بمنحيين:
-منحى الغناء الماردينلي، مثل: “يردِلي يردِلي، سمرا قتلتيني، خافي من رب السما”، وهي بالأصل أغانٍ سريانية غنّوها بالعربية في ماردين، لأنّ غناءها بالسريانيّة كان ممنوعاً.
-المنحى الآخر هو التراتيل والصلوات.
من خلال قراءاتي في مواقع الإنترنت عن الملفونو نوري اسكندر، ومتابعاتي للتسجيلات التي تحمل اسمه على اليوتيوب، واللقاءات التلفزيونية معه أستطيع أن أتحدّث عنه وفق ثلاثة عناوين رئيسية: حفظ التراث السرياني المشرقي، تطويره، وعلاقته بمحيطه. أما عن إنجازاته ونتاجاته فقد تم استعراضها في منشورات كثيرة مؤخرا، لذلك لن أتعرض لها هنا.
1-مشروع حفظ التراث:
استغرق عمله ثماني سنوات في حفظ وتدوين الموسيقى المشرقية القديمة، لا سيما ما يتعلّق بالموسيقا السريانية الكَنَسية، التي تعود لكل من مدرسة الرها ومدرسة دير الزعفران (أورفا وماردين في تركيا حالياً)، حيث قام بتدوينها بالنوطة لأول مرّة ضمن كتابين ضخمين، حملا اسم “بيث كازو” (كنز الألحان).
احتويا نحو 900 لحن، رأى أنّها منبع الموسيقى السورية، ذلك أن هذا التراث كما يقول “لم يكن دينيًا صرفًا، بل استند في أنغامه إلى الموسيقى الشعبية في المنطقة. وفي ذلك يقول: “الكنيسة الرّهاوية هي منبع الألحان السريانية، ونشرت تلك الألحان بشكل إبداعي. حافظتْ الكنيسة الرّهاوية في حلب في حي السريان الرّهاويين، كنيسة مار جرجس، على ذلك حتى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. وبعدها بدأ يخفّ عدد الشمامِسة والذين يُتقنون الألحان السريانية كثيراً.
ومن هنا كان الدور الكبير للمطران مار غريغوريوس يوحنا إبراهيم مطران حلب للسريان الأرثوذكس، حفظه الله، وفكّ أسره وأسر المطران اليازجي، الذي اهتمّ في جمع هذه الألحان وحفظها)).
2- التطوير:
كان الملفونو نوري إسكندر أهم مَنْ ساهموا في إبداع وخلق أغنية سريانية شعبية معاصرة أصيلة ضمن قوالبها السريانية الأمّ. وأضحى كثيرأ من الأغاني التي لحّنها أيقونات في الذاكرة الموسيقية السريانية، وأشهرها:
كوكو دصفرو حابيبتو (يا نجمة الصباح حبيبتي)/ كرحمونو حابيدي (أحب حبيبي)
هايمونثو (الإيمان)/ أو حابيبو حابيبو (أيها الحبيب الحبيب)
شلومه شلومه عال حابيبي (سلامات سلامات على الحبايب)
زاليقي فريسي (الأنوارأشرقت)/ كاثي قيطو (جاء الصيف)
لو تهفوخ (لا تعود)
كما كتب برقانا (الخلاص) بشكل أوبريت سرياني. وفي هذا يقول: ((شخصياً تجرّأتُ وتجاوزتُ الأغنية، وكتبت أعمالاً موسيقية بحتة للأوركسترا وللآلات، العود والتشيللو والبزق وآلات أخرى، والغناء.
موسيقى مُعاصرة جديدة غير شعبية، قريبة من أجواء الكنيسة. كتبتُ أعمالاً جديدة فيها الروح السريانية، أعمال آلية مُتطوّرة غير غنائية. انتقلت من مرحلة الغناء إلى المرحلة الآلية بـ ـformat عالمية جديدة)).
3-تأثير الموسيقى السريانية في الموسيقى العربية والموسيقى الدينيّة الإسلاميّة:
وكما تأثّرت الموسيقا السريانية بما سبقها، تأثّرت الموسيقى العربية والموسيقى الدينيّة الإسلاميّة بالموسيقى السريانية، يقول في أحد لقاءاته: ((كان محمّد قدري دلال، عازف العود الشهير، تلميذي وأنا أستاذه، لكننا أصبحنا صديقين. هو مُختصّ بالموسيقى الإسلامية وأنا بالسريانية.
حضرنا معا لمدة عشر سنوات الأذكار والموالِد في جوامع حلب، والتراتيل والجوقات في الكنيسة السريانية.
وتوصّلنا: أنّ الموسيقى الدينية الإسلامية هي امتداد للموسيقى السريانية مع تطويرها وزيادة الصيَغ الفنية فيها. وعن القدود والموشّحات، يقول: ((هي امتداد من الألحان السريانية. وُضِعت عليها كلمات جديدة، على قدّها، لكن الإيقاعات كانت مُركّبة في السرياني، فكّكوها في العربية، ووضعوا بينها لوازِم موسيقية حتى يُقيموا نوعاً من التوازن)).
وأخيرا أقتطف لكم شيئا مما قالوا عنه:
– كان صدوقاً في حبّه للجميع وفياً لهم، عاشقاً لسورية وموسيقاها العربية والسريانية، بل موسيقا كل الطوائف.
– لم يكن فهمُ نوري إسكندر لهويته السورية، وقوميته السريانية مزيّفاً، بل كانت نقطة تُحتسب لصالحه في زمن اللاقومية وضياع الهوية.
-الموسيقار نوري اسكندر الذي رحل قبل أيام استطاع أن يحقق أعمالاً موسيقية قيّمة ذات طابع شرقي بحت، ولكنها بلغةٍ عالمية، تصلح أن تُعزف في أي مسرح كان وأي بلد كان.
-هو ليس فقط أحد أبرز موسيقيي السريان في العصر الحديث، إنما هو أيضاً عرّاب الموسيقا الكلاسيكية السورية بلا منازع.
-كان يسعى وفق تعبيره إلى: إيجاد اللغة الموسيقية السورية التي تدمج بين مزايا وأجناس ومقامات الموسيقى الشرقية، وبين مزايا الموسيقى العالمية، لخلق موسيقى سورية معاصرة.
-من المؤكّد أن اهتمام اسكندر بالأذكار لم يكن مجرد بروظة فسيفسائية، بل أنتج أعمالاً حقيقية في منتهى الروعة. أذكر منها: يا واهب الحب، هذا العمل الذي ما زلت أحتفظ بنسخته الأصلية.
في التعليق الأول المراجع التي استعنت بها لإنجاز المنشور
وإلى اللقاء
معن حيدر
مقالات الرأي تعبر عن كتابها وليس بالضرورة عن SWED 24