رأي/ تشهد سوريا تحولات جذرية نحو مستقبل جديد، وفي خضم هذه التغيرات، يبرز مفهوم الحوار الوطني كأحد أهم الأدوات لبناء توافق وطني وتحديد مسار البلاد. إلا أن التجارب السابقة، وما آلت إليه من نتائج، تفرض على السوريين التساؤل: هل هم على الطريق الصحيح نحو حوار وطني حقيقي، أم أنهم يكررون أخطاء الماضي؟
والسؤال الأهم الذي يطرح نفسه هو: من سيشارك في هذا الحوار؟ إذا اقتصر الحوار على المتشابهين في الرأي، فإن السوريين يقعون في نفس الخطأ الذي ارتكبه النظام السابق، الذي كان يدعو إلى “حوار وطني” مزعوم، يهدف إلى تجميل صورته أمام العالم، لا إلى إحداث تغيير حقيقي.
إن الحوار الحقيقي يجب أن يشمل جميع مكونات المجتمع السوري، بمختلف انتماءاتهم السياسية والعرقية والدينية. فمن الضروري أن يتحاور السوريون مع أولئك الذين يختلفون معهم، وأن يستمعوا إلى وجهات نظرهم، حتى لو كانت مؤلمة أو مزعجة.
وبهذا الصدد، يقف السوريون أمام تحديين كبيرين، الأول هو أنهم لا يعرفون بعضهم البعض حق المعرفة. وهم بحاجة إلى حوار سوري-سوري، يتعرفون من خلاله على مكونات مجتمعهم المتنوعة، من آشوريين، دروز، إسماعيليين، سنة، علويين، أكراد، تركمان، إيزيديين، أرمن، عرب وغيرهم. وعليهم أن يصححوا المعلومات المغلوطة التي لديهم عن بعضهم البعض، وأن يبنوا جسوراً من الثقة والتفاهم في مابينهم.
أما التحدي الثاني، الذي يتطلب جرأة وشجاعة، فهو الحوار مع من كان مع النظام السابق. هذا لا يعني تبرئة أفعالهم، بل يعني الاستماع إلى وجهة نظرهم، ومحاولة فهم الأسباب التي دفعتهم إلى الوقوف إلى جانب النظام. ولكن يجب أن يكون هذا الحوار مشروطاً بعدم تلطخ أيدي المتحدثين بالدماء. وفي هذا الصدد، يجب التأكيد على أن العدالة الانتقالية لا تعني الانتقام، بل تعني المساءلة والمحاسبة، وفقاً للقانون والمعايير الدولية. مع التنويه بوجوب أن تكون العدالة الانتقالية شاملة، وأن تطبق على جميع المتورطين في جرائم الحرب والانتهاكات ضد حقوق الإنسان، بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية أو الدينية. ولاينبغي أن يكيل السوريون بمكيالين، وأن يطبقوا العدالة على البعض دون البعض الآخر. إما أن يصفحوا عن الجميع، أو أن يقدموا الجميع للعدالة.
إذا لم ينجح السوريون في مواجهة هذين التحديين، فإن كل ما سيحصل سيكون عبارة عن “خوار وطني”. الجميع سيتكلم، ولكن لا أحد سيسمع. سيعودون إلى الاستقطاب السابق، ولكن بأدوات جديدة ووجوه جديدة.
فالحوار الوطني المنشود لا يجب أن يكون مجرد نقاشات لا طائل منها، بل يجب أن يسفر عن نتائج ملموسة، كوضع خطة عمل واضحة المعالم لبناء سوريا المستقبل. هذه الخطة يجب أن تتضمن عدة عناصر أساسية، منها:
- مشروع دستور جديد: يضمن حقوق جميع السوريين، ويؤسس لنظام حكم ديمقراطي تعددي، يكفل الحريات الأساسية، ويضمن توزيعًا عادلًا للسلطة، ويضع آليات واضحة للمساءلة والمحاسبة.
- تشكيل حكومة جديدة: تمثل جميع مكونات المجتمع السوري، وتعمل على تحقيق المصالحة الوطنية، وتنفيذ خطط إعادة الإعمار والتنمية، وتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين.
- بدء خطة عدالة انتقالية: تضمن محاسبة المسؤولين عن جرائم الحرب والانتهاكات، وتعويض الضحايا، وكشف الحقيقة حول ما جرى خلال سنوات الصراع، ووضع آليات لمنع تكرار الانتهاكات في المستقبل.
- وضع آليات لتنفيذ مخرجات الحوار: من خلال إنشاء هيئات ومؤسسات وطنية مستقلة تتولى متابعة تنفيذ القرارات والتوصيات الصادرة عن الحوار، وتقديم تقارير دورية حول التقدم المحرز.
ولعل تجربة جنوب أفريقيا في الحوار الوطني بعد نظام الفصل العنصري تقدم مثالًا ملهمًا. فقد أسفر الحوار هناك عن وضع دستور جديد، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وإنشاء لجنة الحقيقة والمصالحة، التي ساهمت في تحقيق العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية.
يجب أن يدرك السوريون أن الحوار الوطني لا يتم في المؤتمرات والقاعات المغلقة فقط. الحوار الحقيقي هو حوار الحياة، حوار العمل، حوار البناء. هو الحوار الذي يجري في دائرة حكومية ما بين موظفين يعملون معاً، أحدهم بقي في عمله، والآخر رفض العمل تحت ظل النظام وانشق عنه وتركه. هو الحوار الذي يجري في ورشة بناء بين عاملين، أحدهما كان مع النظام، والآخر كان ضده. هو الحوار الذي يجري في كل مكان يتلاقى فيه السوريون، في الأسواق، في المقاهي، في الجامعات، في المستشفيات.
ختاماً، إن الحوار الوطني في سوريا ليس مجرد ترف، بل هو ضرورة حتمية لبناء مستقبل مستقر ومزدهر للبلاد. يجب أن يكون هذا الحوار شاملاً وصادقاً، وأن يشمل جميع مكونات المجتمع السوري، بمن فيهم من اختلفوا في الرأي. كما يجب أن يتحلى السوريون بالشجاعة للاستماع إلى وجهات نظر الآخرين، وأن يكونوا مستعدين للتنازل عن بعض مواقفهم من أجل المصلحة الوطنية العليا. فيبقى السؤال الأهم هل السوريون مستعدون لهذا التحدي؟
جميل دياربكرلي
المدير التنفيذي للمرصد الآشوري لحقوق الإنسان
مقالات الرأي تُعبر عن رأي كُتابها وليس بالضرورة عن SWED 24