تقرير استقصائي للكاتب الصحفي والمُترجم المصري/ محمود عاطف
“مساء الخير، ليه دا كله بقا؟ مبارك وعائلته وأنا معاهم، ماكانش فيه داعي لكل دا، لا دي الطريقة ولا دا الأسلوب.. عيد مبارك.. كل سنة وإنت طيب.. سلام، باي باي”
كانت هذه رسالة مُسجَّلة بصوتٍ أنثى لا يخلو من نبرة تسلُّط وتهكُّم ووعيد على جهاز الآنسرماشين بتاريخ 11 أغسطس 2003، داخل الشقة الواقعة في العمارة رقم 34 بشارع إسماعيل سري المُتفرّغ من شارع القصر العيني.
في الثالثة والنصف عصرًا أمام بوابة العمارة، نزل الصحفي الأربعيني الأعزب رضا هلال من سيارة جريدة الأهرام وهو في كامل قيافته، وثبّت كعادته قلم “يوني بول 157” في جيب سُترته، وبعد ما أشار للسائق سيد عبد العاطي بالمغادرة مع تأكيدات صارمة بضرورة العودة له قبل الثامنة ليلًا لتوصيله مرة أخرى لجريدة الأهرام من أجل استلام “الشيفت” المسائي”.
مضى رضا إلى داخل العمارة، منتظرًا وصول طلب “فتة بالموزة” من مطعمه الأثير “أبو شقرة”.
بعد نص ساعة، وصل عامل الدليفري بطلب “الفتة بالموزة” لكنه لم يجد من يستلمه. اختفى رضا هلال. من يومها وإلى الأبد…
***
انتبه زملاء رضا في الأهرام إلى اختفائه العجيب بعد مفاجأتهم بتغيّبه عن استلام “الشيفت” خصوصًا وأنه كان يعمل حينها نائب رئيس تحرير الجريدة، كما أنه كان مسؤولًا عن ضبط عناوينها وصياغة أخبار عدد اليوم التالي.
وعندما اتصلوا بأخيه أسامة هلال لسؤاله عن غياب رضا، وقبل طلوع الشمس، وصل أسامة مهرولًا من السنبلاوين إلى القاهرة للاطمئنان على أخيه، لكن الغريب أنه وجد باب الشقة مغلقًا بقفل من الخارج على غير العادة!!
يا ترى روحت فين يا رضا؟!
***
بدأت الأجهزة الأمنية التحقيق سريعًا خصوصًا مع تصعيد الصحفيين العاملين بالأهرام، وعلى رأسهم طبعًا الصحفي الأمنجي الأبرز أحمد موسى الذي قام بالكثير من “النَوش” في بابه “على مسئوليتي” وحث حبايبه في وزارة الداخلية على إنهاء الجدل وسرعة العثور على رضا.
“والله يا جماعة إحنا غُلبنا، من أول يوم، الوزارة حشدت خيرة ضباطها. ما سبناش حد قال لرضا: صباح الخير، إلا وسألناه. ما بنامش، ولو كان بإمكاننا إننا نجيب رضا «تركيب»، كنا عملنا كدا عشان نخلص من القضية دي. إحنا بنشتغل إحنا وأمن الدولة والأمن العام والمباحث الجنائية. وكل اللي قدرنا نتوصّله إن القضية دي أكبر من إمكانات البحث الجنائي. يا إما اتنفذت بدقة شديدة يا بمصادفة وقدر إلهي فنجحت. واضح إن رضا ما وصلش للشقة أصلًا. هو دخل العمارة وطلع بالأسانسير بس ما دخلش الشقة. كل دا ما خدش أكتر من دقيقة لدقيقة ونصف، ومن ساعتها فص ملح وداب”
كانت هذه إفادة العميد ياسر الفقي … رئيس مباحث السيدة زينب بالقاهرة وقت اختفاء رضا هلال.
يا ترى روحت فين يا رضا؟!
***
زميله الكاتب الصحفي عبد العاطي محمد قال تعليقًا على إختفائه العجيب: “رضا كان مسيطر عليه في الأيام الأخيرة جموح وليس طموح. وكان طول الوقت بيتفاخر بعلاقاته بالأمريكان، خصوصًا وإنه قدر يرتب حوار صحفي مهم مع نائب الرئيس الأمريكي الأسبق «ديك تشيني» قبل غزو أمريكا للعراق. وكان بيمشي متباهيًا بإنه الوحيد اللي حصل على جواز السفر الأمريكي في 48 ساعة بس.
بينما الكاتب الصحفي عبد الحليم قنديل قال إن رضا اختفى بعدما باح بمعلومات حوالين ثروة جمال مبارك وشراكته لرجال أعمال أجانب منهم إسرائليين مقيمين في لندن.
في نفس السياق، كان فيه نمائم أخرى عن إنه رضا، في جلسة صفا بعد ما شرب وخرب، خبّط في جمال مبارك وجاب سيرة توجهاته الجنسية.
قبل الاختفاء بأيام، كان زملائه في الأهرام بيتكلموا مع إبراهيم نافع رئيس مجلس إدارة الأهرام عن إن رضا لازم يهدّي اللعب شوية خاصةً مع انتشاره في التليفزيونات العربية وهلفطته بكلام مش على هوى النظام ومعارضته لمشروع التوريث.
الغريب إن إبراهيم نافع رئيس تحرير الأهرام تجاهل أمر رضا تمامًا رغم إنه كان من المقربين منه، ولما اتسأل عن الموضوع قال: “أنا ما أعرفش حاجة… وسألت الرئيس مبارك وحبيب العادلي فنفوا نفيًا قاطعًا أن يكون لهم أيّ صلة بالأمر!”
***
حبيب العادلي… الرجل الذي كان توليه لوزارة الداخلية بمثابة استعادة لإرث أمن الدولة المسلوب بعدما جاء رجل من خارج الجهاز “حسن الألفي”، تسبَّب في تمييع الوزارة فكان طبيعيًا أن تنتهي فترة ولايته نهايةً مؤسفة بمذبحة الأقصر 17 نوفمبر 1997 حيث أسفر الهجوم الإرهابي عن مصرع 58 سائحًا، ومن ثم اتعدلت الكفة مرة أخرى على يد رجل بقوة حبيب العادلي.
لكن بعد شهور قليلة، تلقى حبيب خبر وفاة زوجته. الله أعلم بوقع هذا الخبر عليه. هو نفسه أفضى بأنه كان يحبها ولا يستطيع الجواز عليها، ولكنه في نفس الوقت كان يتمنّى أن ينجب ولدًا، والحاجة أم البنات خلاص كبرت وبلغت حسن الختام.
لذلك قبل أن يتجاوز الأربعينات، بدأ في رحلة البحث عن عروسة. استشار قرينة الرئيس، سوزان مبارك واقترح عليها أن يتزوّج من حسناء مغربية، لكنها رفضت رفضًا تامًا، وقالت له: ما ينفعش وزير يتجوز من واحدة أجنبية”. لكنها باركت اختياره لما اقترح عليها واحدة صحفية تعمل في الأهرام، وإن كان لها ظروف خاصة.
هذه الصحفية هي الفاتنة “إلهام شرشر” التي كانت تُغطي بالصدفة البحتة قضية “توظيف الأموال” في منتصف التسعينات، فرآها رجل الأعمال أشرف السعد، وفُتن بجمالها، وسرعان ما تزوجها، لكن ما لبث أن طلب منها أن تهرب معه إلى لندن بعد سرقته أموال المودعين، فانفصلا، وطلعت كسبانة من هذه الزيجة بشقة في حي الزمالك وملايين الدولارات من شقا وكد المصريين الغلابة.
لذلك أكدت سوزان مبارك على حبيب العادلي إنه من شروط إتمام الزيجة أن يفرض على زوجته الجديدة إلهام شرشر الابتعاد عن الأضواء، خصوصًا وأن الصحافة أثارت الكثير من الجدل وقتها حول وزير الداخلية الذي تزوج من طليقة رجل هارب من العدالة، والأنكى من ذلك، أنه عاش معها في الشقة التي أهداها لها طليقها أشرف السعد!
ورغم وقوع العادلي لشوشته في حب زوجته الجميلة، التي أتت له بولي العهد “شريف”، الذي لطالما حلم به، لكنه تعرّض لضغط واستفزاز شديد، عندما عصت إلهام شرشر أوامره وقرّرت أن تعود إلى أضواء الصحافة وترجع مرة أخرى لعملها في الأهرام، فقرّر أن يُطلِّقها.
تكاثرت الأقاويل، خلال فترة انفصالهما القصيرة هذه، عن تجدد الود القديم بين إلهام شرشر وزميلها في الأهرام الأنيق رضا هلال، الذي أُشيع إنه كان السبب في إقناعها بالعودة إلى الصحافة والخروج عن طوع زوجها.
وبالتأكيد رجل الأمن، حبيب العادلي، الذي كان يعرف ما يدور في غرف نوم الشعب المصري، أدرك طبيعة هذه العلاقة، وحاول لم الموضوع سريعًا وردّ زوجته إلى عصمته مرة ثانية، لكنه عقد العزم على الانتقام من رضا هلال، الذي يُقال أيضًا إنه في إحدى هلفطاته المعتادة أتى بسيرة حرمه بسوء، فاستغل وزير الداخلية مقالات وتصريحات الصحفي المنشورة عن معارضته لمشروع التوريث، وأقنع سوزان مبارك أن هذا الصحفي اللعين هو أخطر عدو لوصول جمال إلى الحكم، وأخذ منها إذن بإخفائه من على وش الأرض… حرفيًا.
***
“مساء الخير، ليه دا كله بقا؟ مبارك وعائلته وأنا معاهم، ماكانش فيه داعي لكل دا، لا دي الطريقة ولا دا الأسلوب.. عيد مبارك.. كل سنة وإنت طيب.. سلام، باي باي”
عقب ثورة يناير، أخذ أسامة هلال، شقيق رضا الذي لم يفقد الأمل أبدًا في العثور عليه، الرسالة المُسجلة على جهاز الآنسرماشين وطلب من الأجهزة الأمنية فحص ومطابقة الصوت الأنثوي، لتؤكِّد الأجهزة رسميًا وبنسبة 100% أنه صوت إلهام شرشر، الصحفية السابقة زميلة رضا هلال بالأهرام، وزوجة وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلي.
وبعد عشرين سنة من اختفاء رضا، وبعد أن داخ أخوه السبع دوخات في رحلة البحث عنه في كل السجون والمستشفيات والمشارح، كل الشائعات تدور حول احتمال من اثنين:
* إما أنه تم إذابة جثة رضا هلال بالجير الحي والمواد الكيماوية ودفن عظامه في مكان مجهول.
* أو تم دفنه حيًا في عمود خرساني بأحد الأبراج السكنية
آه يا عضمك يا رضا!!
تقرير استقصائي للكاتب الصحفي والمُترجم المصري/ محمود عاطف