مقال رأي: لديك هذا الشعور الغريب، أليس كذلك؟ ذلك الشعور بأنك الوحيد في هذا العالم الذي يجب أن يبدو قويًا. أن تظل واقفًا، مبتسمًا، حتى وإن كان قلبك على وشك الانهيار. نحن، الذين نتخذ من الصمت درعًا، من التحمل سلاحًا، ومن “سأكون بخير” شعارًا مكررًا يوميًا، نمارس هذا الفن القديم، فن جلد الذات، بمهارة نادرة. نعم، نحن أولئك الذين نضحك في وجوه الناس بينما نحمل على أكتافنا جبالاً من الهموم. تلك الجبال التي لا تسمح لنا حتى بالتعثر، لأننا ببساطة نخاف أن نُفضح أمام أنفسنا قبل الآخرين.
نعيش في الغربة، وكم هي ثقيلة تلك الكلمة، غربة المكان وغربة النفس. هنا، حيث لا مكان مألوف، ولا أحد يلتقط أنفاسك عندما تتعثر. نصارع لتأدية دورنا في مجتمعات جديدة غريبة عنا بقدر ما نحن غرباء عنها. نصارع لأجل التكيف، لأجل الشعور بالانتماء. وفي هذا الصراع، نصبح الأكثر قسوة على أنفسنا. كل خطأ، كل تعثر، يصبح دليلاً على أننا ضعفاء. “كان يمكنني أن أفعل أفضل” نكرر لأنفسنا بينما نغرق في بحر من تأنيب الضمير. لماذا؟ لأننا نعتقد أن الضعف جريمة، والاعتراف بالمعاناة نوع من العار.
نتعلم، أو بالأحرى نتوارث، أن القوة تعني الصمت. أن الأبطال لا يسقطون، ولا يطلبون العون. نمضي قدمًا، نكابد، ونحاول الابتسام بينما تشق الابتسامة طريقها بين دموع داخلية لا يراها أحد. ولكن هناك ثمن لكل شيء، أليس كذلك؟ ثمن القوة المفرطة قد تكون إنهياراً كبيراً، انهيار لا يأتي إلا بسبب تلك الإرادة الحديدية التي لم تنكسر من قبل. وما أروعها من مفارقة، نحن لا ننهار لأننا ضعفاء، بل لأننا ببساطة كنا أقوياء أكثر مما ينبغي، تماماً كما يهاجم جسم الإنسان نفسه عندما تزداد مناعته الدفاعية.
نحن، من اعتدنا أن نحمل أوزان العالم على أكتافنا دون أن نسمح لأحد بأن يلمح حتى اهتزازًا في أقدامنا، نتعثر في نهاية المطاف. وعندما نتعثر، نكتشف أننا لم نحترم ألمنا ومعاناتنا. لم نكن أمناء مع أنفسنا. تظاهرنا بأننا بلا قلب، بلا مشاعر، نُمرر ما يؤذينا ويجرحنا وكأننا لسنا بشرًا. ولكن الحقيقة أن مشاعرنا كانت تصرخ طوال الوقت، ونحن أصررنا على تجاهلها وعدم الإستماع إليها. إلى أن جاء اليوم الذي قال لنا فيه الجسد “كفى… قف هنا!”.
السخرية في الأمر؟ أن أقوى الناس هم أكثرهم عرضة للانهيار. لأنهم ببساطة لا يعرفون كيف يتوقفون. لا يعرفون كيف يطلبون العون أو كيف يمنحون أنفسهم استراحة. في الحقيقة يعيشون حياتهم في خط واحد يحسبونه مستقيماً رغم عمق الحفر التي فيه، بالنسبة لهم، الراحة هي اعتراف بالهزيمة، وهم لا يهزمون. أو هكذا يعتقدون.
إليك الحقيقة المرة: لا يمكنك أن تكون قويًا في كل الظروف. ليس لأنك ضعيف، بل لأنك إنسان. هناك مواقف في الحياة تتجاوز طاقتنا كبشر، وهناك أوزان أثقل من أن نحتملها وحدنا. في تلك اللحظات، بدلاً من الاستمرار في القتال بلا هوادة ، علينا أن نتعلم التوقف. أن نعرف متى نركن اثقالنا جانبًا لنتنفس قليلاً ونتأمل القادم. ألا ننتظر حتى تنهار أكتافنا تمامًا، عندها حتى لو أستراحت أقدامنا، فلن نكون قادرين على حمل أثقالنا.
الحياة ليست سباقًا لتحمل أكبر قدر من الألم دون أن تُظهر ذلك. في بعض الأحيان، يكون الاستسلام المؤقت هو القوة الحقيقية. تلك اللحظات التي تشعر فيها بأن شيئًا ما بداخلك يقاوم التقدم، ليست ضعفًا. بل هي دعوة من داخلك للتوقف، للإصغاء. لأنك ربما أمام مفترق طرق كبير، يحدد كيف ستعيش بقية حياتك.
فلتكن النهاية هنا، نهاية غير متوقعة. سنواصل التظاهر بالقوة، وسنضحك في وجوه الآخرين بينما قلوبنا تئن. لماذا؟ لأننا ما زلنا نؤمن بأن العالم لن يمنحنا إذنًا للتعثر. ولكن، ولحسن الحظ أو لسوءه، نعرف أن النهاية قد تكون قريبة. ننتظر فقط اللحظة التي ستنهار فيها تلك الجبال الوهمية التي بنيناها فوق أكتافنا. وعندها سنضحك للمرة الأخيرة، ولكن هذه المرة لن يكون هناك من يسمع.
لينا سياوش

مقالات الرأي تعبر عن رأي أصحابها وليس بالضرورة عن SWED 24