رافقت واخواني الوالدة في زيارة الى الأردن لا نُحسد عليها، زيارة علاجية من مرض عضال اكتشفته الوالدة بالصدفة.
تتمتع الوالدة بحس فطري فكاهي حتى في أصعب الظروف، يخفف من هول الأوقات المؤلمة، لكنها لا تدرك ذلك.
ورغم ان الظروف لم تؤتيها لتكمل دراستها الا انها تستخدم الكوميديا السوداء للسخرية من انعطافات الحياة القاسية. لها قدرة انتقائية رائعة جداً في اقتباسات المفضل لديها من الأغاني، قدرة جميلة على تكثيف الاحداث بجمل قصيرة ذو دلالات واضحة، الامر الذي لطالما اعتدنا انا واشقائي التندر به أثناء لقاءاتنا، حتى ان اخي الصغير الجميل بحبه للحياة والنكتة اقترح مرة مازحاً ان ينشأ قاموساً خاصاً لمفردات وتعابير الوالدة نتداوله فيما بيننا، خوفاً من نسيانها، لما تحويه من عمق فكري وحس فكاهي مُعبر.
اعتادت الوالدة في الأسابيع الطويلة التي قضيناها في الأردن وصف ما حل بها بـ “المصيادة” وليس المصيدة، فهناك فرق بين الاثنين، فالأولى تردي الضحية بحجر، فيما الثانية تُنصب لتقع الضحية فيها. و”المصيادة”، لعبة شعبية شائعة كان يلعبها أطفال العراق سابقاً، وهي عبارة عن قطعة خشب يابسة على شكل رقم سبعة، تربط في نهاية طرفيها شريط مطاطي، توضع في منتصفه حجارة صغيرة لاصطياد العصافير أو للإثارة الشغب في كسر شيء ما.
العجب ان نوع ما أصابها من مرض، يصيب الرجال في الغالب والأشخاص المدخنين والمصابين بالسمنة، وهي أبعد ما يكون عن ذلك، ربما أخطأت “المصيادة” طريقها في اقتناص الفريسة هذه المرة، فابتلت الوالدة بحجارتها.
ورغم ان الوالدة باشرت عقدها الثامن، الا انها وحتى قبيل ان يصيبها المرض كانت تتمتع بصحة وطاقة تُحسد عليها، حتى ان الأطباء في العراق والأردن اصابهم العجب من نتائج فحوصاتها الجيدة وما تتمتع به من قوة، ربما بسبب الروتين الجميل الذي اسسته لحياتها وممارستها المنتظمة للرياضة وتناولها الغذاء الصحي.
لا يحضرنا الموت مرة واحدة. بل يأخذنا بالتدريج. يمهد لنا الطريق وربما يوصلنا الى نهاية نطلبه فيها فيمتنع. الموت حقيقية ننتهي إلينا جميعنا، يُسعد من يدركها وهو حي. ووالدتي تدرك هذه الحقيقية خير إدراك بقناعة راسخة، لكنها لا ترى ضرورة في ان يكون الألم مرافقاً للنهاية.
في المستشفى بالأردن، أصبحت الوالدة صديقة الأطباء والطاقم الطبي بشكل عام، الذين اخجلونا بلطفهم وعطفهم. هناك أشخاص يتركون فينا اثراً عميقاً رغم ان الحياة تجمعنا فيهم صدفة ولأوقات قصيرة. شكراً لهم من القلب.
ربت الوالدة نفسها وربتنا نحن أبنائها بطريقة غير تقليدية، جعلتنا نُثمر في كل صحراء نُزرع فيها، في وقت تكالبت علينا المصائب والبشر. تعلمنا ان نحافظ على ثبات السفينة حتى في وقت الأعاصير، بوجهة لا تسير الا نحو الأمام.
لم نُعلم الوالدة بإصابتها بالمرض، إذ تقول دائماً أن الموت أفضل من المرض، فهي عاشت حياتها كمحاربة، والمحاربة لا ترضى لنفسها ملازمة الفراش في انتظار الموت، وذلك ما دعانا لعدم اخبارها، كان الأمر ليكون قاسياً جداً عليها، وطلبنا من الأطباء عدم اخبارها ايضاً. المثير للسخرية، انها الوحيدة التي كانت تسمي جلسات العلاج الكيمياوي باسمها الصحيح، فيما كنا نحن نسميها بجلسات المغذي للتمويه على المرض.
ورغم العلاجات القوية التي ابتلى جسدها به، الا ان تحملت ذلك بقوة، الامر الذي لم يتوقعه الأطباء أنفسهم. يُحبب المرض الحياة فينا.
في احدى الزيارات جلبت الممرضة كرسي متحرك للوالدة لتساعدها في الوصول الى طبيب التنظير الذي تقع عيادته في الجهة الأخيرة البعيدة عن النقطة التي كنا فيها، الا ان الوالدة نظرت شزراً الى الكرسي ودارت وجهها بكبرياء وخلفتنا وراءها في السير. بعض الأطباء كانوا يؤدون لها التحية العسكرية لما يرونه فيها من قوة.
من اقتباساتها الجميلة، كلمات اغنية ذكرى، تلك التي تقول: “يوم ليك ويوم عليك… مش كل يوم معاك…”، لكن الأروع مقاطع من اغنية سميرة سعيد التي تقول فيها:
“الدنيا كده الدنيا كده على دا ودا
ناس تتهنا وناس تتمنى
وناس مفرقه كده زي حالنا
وادينا عايشين ادينا ماشين
ان كان راضين او مش راضين
تحدثت مع الوالدة مؤخراً وكانت بالكاد قادرة على فتح عينيها لما أصابها من ضعف، قالت لي: “يقول الأطباء انني سأصبح أفضل، لنر”.
ليس حزناً على الوالدة أكتب، بل فخراً بإرادتها وإصرارها القويين على مصارعة المرض ولأنها منحتنا فرصة الوجود في هذا الحضور المهيب. تعلمت منها الكثير ولا زلت أتعلم.