رأي: في الشرق الأوسط، تُعاد صياغة الحياة نفسها بالدماء. تُرسم الخرائط على أنقاض المدن، وتُكتب قصص المعاناة على أجساد شعوب تحوّلت إلى أدوات في مختبر عالمي لا يرحم. بين صرخات الأطفال تحت الأنقاض وأحلام اللاجئين على حدود اليأس، ينهار كل معنى للحياة في ظل صراعات أبدية تقودها أجندات خارجية.
قرارات بعض القوى الدولية لم تكن يومًا انعكاسًا لرغبات شعوب المنطقة. من قاعات المؤتمرات البعيدة تُرسم السياسات التي تجعل الأمان رفاهية مستحيلة. شعوبٌ أنهكتها الحروب، لا تطلب أكثر من رغيف خبزٍ بكرامة وسقفٍ يحميها من برد الشتاء، لكن حتى هذا يُنزع منها.
في أحد الأحياء المدمرة، يجلس طفلٌ صغير على بقايا منزله الذي تحول إلى كومة من الحجارة المحترقة. فقد عائلته بالكامل في قصف استهدف “هدفًا استراتيجيًا”. لا يعرف هذا الطفل معنى “الاستراتيجية”، لكنه يدرك أن بيته لم يعد ملاذه. كل ما بقي له هو ذكريات دافئة عن عائلته التي باتت جزءًا من الماضي.
هذا المشهد ليس استثناءً، بل هو نمط متكرر. آلاف الأطفال في العراق وسوريا واليمن وأفغانستان يعيشون السيناريو ذاته. أطفالٌ، أُريد لهم أن يكبروا في عالمٍ لا يعرف إلا الحرب، حيث تصبح اللعب والحياة المدرسية أحلامًا بعيدة المنال أو صغيرة على مقاسات ما يرونه.
لم تنبثق الحركات المتطرفة في المنطقة من فراغ، بل كانت نتاجًا لتوازنات معقدة، فرضتها قوى كبرى لتحقيق مصالحها. في بيئة محطمة ومفتقرة للموارد، تصبح الإيديولوجيات المتطرفة أدواتٍ مغرية لمن يبحث عن الخلاص.
كيف لبيئة منهارة، أنهكتها الحروب والفقر، أن تصمد أمام إغراء وعود الخلاص الوهمية؟ شعوبٌ كانت تعرف التعايش رغم اختلافاتها، تجد نفسها اليوم محاصرة بحروب طائفية زُرعت بعناية لتفكك نسيجها الاجتماعي.
في العراق، البلد الذي كان يُعرف بمهد الحضارات، كاد أن يتحول كل شيء إلى رماد. الغزو الذي وعد بالديمقراطية لم يترك سوى بنية تحتية مدمرة، ونسيج اجتماعي ممزق، وأجيال لا تعرف إلا الخوف. العائلات تُدفن أحلامها مع أحبائها، بينما تتحول وعود التحرير إلى كوابيس يومية.
في سوريا، الصور أبلغ من أي كلمات. أحياء أُبيدت، وأطفالٌ شُردوا، وأجيالٌ نشأت في ظل أصوات الصواريخ. التدخلات الدولية، رغم كل وعودها، لم تجلب سوى الفوضى. الشعوب تُترك لتواجه مصيرها المجهول، بينما تُدار الصراعات من خلف الأبواب المغلقة. الثورة الشعبية، التي كانت شعلة أمل، انتهت بمشهدٍ مأساوي، حيث تُرك السوريون بين مطرقة التدخلات وسندان الفوضى.
حتى العيش البسيط لم يعد خيارًا متاحًا لشعوب المنطقة. في اليمن، يموت الأطفال بسبب الجوع أو الأمراض التي كان يمكن علاجها بسهولة. في لبنان، تهوي العملة الوطنية، ويصارع المواطنون لتأمين احتياجاتهم الأساسية. في فلسطين، أصبحت الحياة معاناة يومية.
ورغم ذلك، تُشدد أوروبا سياسات الهجرة، وتُغلق أبوابها أمام اللاجئين الذين هربوا من الجحيم. العالم يدير ظهره للمأساة، مكتفيًا بالإدانات الشكلية أو الوعود غير المحققة.
ربما يأتي يوم تُعقد فيه جلسات النقاش في مراكز الأبحاث العالمية، حيث تُناقش “نجاحات” بعض القوى الدولية في إعادة تشكيل الشرق الأوسط. سيُثنى على “إعادة الإعمار” و”إعادة التوازن”، لكن أحدًا لن يتذكر الأطفال الذين قضوا جوعًا، أو العائلات التي شُردت للأبد.
الشرق الأوسط، ذلك المختبر القاسي، سيظل شاهدًا على مأساة العصر الحديث، حيث أصبحت الشعوب مجرد أرقام في معادلات لا تعرف الرحمة.
لينا سياوش
مقالات الرأي تعبر عن رأي كتابها وليس بالضرورة عن SWED 24