رأي/ في لحظة ترقب تاريخي، تلوح في الأفق إمكانية أن تشرق شمس السلام على تركيا بعد دعوة عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني المعتقل في سجن إمرالي التركي منذ عام 1999، لحل حزبه وإلقاء السلاح. هذه الدعوة تأتي في سياق تحولات جذرية تشهدها تركيا والمنطقة، مما قد يفتح صفحة جديدة في تاريخ البلاد التي عانت طويلاً من الصراع الكردي التركي.
لقد تحمل المجتمع التركي، خصوصاً في المناطق الجنوبية الشرقية، أعباء الصراع المسلح بين الحكومة وحزب العمال الكردستاني، الذي أودى بحياة آلاف الضحايا وشرّد مئات الآلاف، إضافةً إلى تدمير البنية التحتية وتعميق الانقسامات الاجتماعية. لذلك، فإن أي خطوة نحو إنهاء هذا النزاع ستكون لها آثار إيجابية كبرى على استقرار المجتمع التركي وتماسكه. علاوةً على ذلك، قد تساهم دعوة أوجلان في خلق مناخ من الثقة والحوار بين مكونات المجتمع، وتمهيد الطريق لمصالحة وطنية شاملة تعالج الجذور العميقة للصراع وتضمن حقوق المواطنين الأتراك بمختلف خلفياتهم العرقية والدينية. ولا يغيب عن الأذهان تأثير الصراع على الاقتصاد التركي، لا سيما في المناطق الجنوبية الشرقية، حيث إن إنهاءه قد يسهم في تعزيز البيئة الاستثمارية والتنمية الاقتصادية، مما ينعكس إيجاباً على تحسين مستوى معيشة السكان.
من ناحية أخرى، ومن باب إظهار إن هذا الصراع اثاره لم تقتصر فقط على طرفيه بل على كل المجتمع التركي بكل فئاته، فالسريان/المسيحيون يعتبرون من أبرز ضحايا هذا الصراع، حيث عانت مناطقهم التاريخية مثل طورعبدين وهكاري من نزوح جماعي خلال سبعينيات وثمانينيات وتسعينات القرن الماضي. ووسط تبادل الاتهامات بين الأطراف المتنازعة، أصبح السريان ضحية لهذا التوتر. ومن هنا، فإن السلام والاستقرار في تركيا يمثلان فرصة لهؤلاء السكان للعودة إلى ديارهم والمساهمة في بناء مستقبل المنطقة المزدهر.
السلام والتنوع عنصران أساسيان في نسيج المجتمع التركي، وتركيا بحكم تاريخها العريق وموقعها الجغرافي الفريد تحتضن تنوعًا ثقافيًا وعرقيًا ودينياً واسعاً، مما يعد مصدر قوة وثراء. ومع ذلك، فإن إدارة هذا التنوع بشكل صحيح تعد شرطاً لتحقيق السلام الدائم. ويتطلب ذلك الاعتراف بحقوق الجميع واحترامها وتعزيز الحوار والتفاهم بين المجموعات المختلفة.
تلعب تركيا دوراً محورياً في استقرار المنطقة، واستقرارها ينعكس إيجاباً على دول الجوار. وهذا يعزز من قدرتها على أن تصبح نموذجاً يحتذى به في حل النزاعات بالطرق السلمية وبناء مجتمعات ديمقراطية متسامحة ومتعددة.
لا يقتصر تأثير دعوة الزعيم الكردي أوجلان على تركيا وحدها، بل يمتد ليشمل المشهد الكردي في سوريا، حيث تعتبر قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تشكل وحدات حماية الشعب الكردية (YPG) عمودها الفقري، بمثابة الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني. وعليه، فإن أي تحول في موقف أوجلان سيكون له تداعيات مباشرة على قسد ودورها في شمال شرق سوريا. فمن جهة، يتمتع أوجلان بمكانة رمزية كبيرة بين الأكراد في سوريا، مما يعني أن دعوته لحل الحزب وإلقاء السلاح قد تدفع قسد إلى إعادة تقييم استراتيجيتها وتحالفاتها.
ومن جهة أخرى، قد تزيد هذه الدعوة من الضغوط على قسد لتبني حلول سياسية للصراع في سوريا، والابتعاد عن الخيار العسكري. ومع ذلك، تواجه قسد تحديات جمة، أبرزها التوفيق بين التزاماتها تجاه مسار ما يسمى “الاندماج الوطني” من خلال سلسلة مباحثات مع السلطات في دمشق، التي ترى في جناحها العسكري ورقة تفاوضية هامة، وبين التغيرات المحتملة في موقف حزب العمال الكردستاني.
ومن هنا، فإن أي تغيير في موقف قسد قد يعقد علاقاتها مع الحكومة السورية، ومع القوى الإقليمية الأخرى المتدخلة في الصراع السوري. وفي هذا السياق، تتباين الآراء حول مدى تأثير دعوة أوجلان على قسد؛ فبينما يرى البعض أن قسد ستتأثر حتماً بموقفه، بينما يشير آخرون إلى أن القرار الفعلي داخل الحزب بات بيد قيادة قنديل، التي تتبنى نهجاً راديكالياً وترى في مبادرة الحل مجرد مناورة سياسية.
وبهذا الصدد ليس من الغريب أن تقوم قيادة قسد بإصدار تصريحات تنفي فيها تأثرها بدعوة أوجلان وتنصلها الدائم من اي صلة مع حزب العمال الكردستاني، إلا أن تأثير شخصية أوجلان الرمزية سيظل حاضراً في الوعي الشعبي الكردي، وقد يدفعها لاحقاً إلى تليين مواقفها. فمستقبل العلاقة بين قسد وحزب العمال الكردستاني سيظل رهن التطورات السياسية والعسكرية في المنطقة، ومدى قدرة قسد على التكيف مع التغيرات المحتملة في مواقف حزب العمال الكردستاني وقيادة قنديل.
وعلى الرغم من ذلك، تظل تركيا متمسكة بموقفها الرافض لوجود لأي فصيل مرتبط بحزب العمال الكردستاني على حدودها، وهو موقف تشاطره معها دمشق. ومع ذلك، لا تعارض تركيا وجودًا كرديًا ضمن نموذج يشبه إقليم كردستان العراق، مما قد يفرض على قسد الامتثال لدعوة أوجلان وحلّ نفسها.
ختاماً، عملية السلام في تركيا تواجه تحديات كبرى، سواءً في تنفيذ الاتفاقيات أو معالجة الخلافات. ومع ذلك، فإن دعوة أوجلان تمثل فرصة تاريخية تتطلب إرادة سياسية قوية وتضحيات مشتركة لضمان مستقبل مزدهر ومستقر لا لتركيا وحدها بل للمنطقة بأكملها.
بقلم : جميل دياربكرلي
المدير التنفيذي للمرصد الآشوري لحقوق الإنسان
مقالات الرأي تُعبر عن رأي كُتابها وليس بالضرورة عن SWED 24